قد يبدو أن المرء في لبنان أصبح «مستغنياً عن حياته». ففي عمليات البحث المستمرة عن «الفريش دولار»، انتشرت مؤخراً «عصابات سرقة الكابلات النحاسية» على معظم الاراضي اللبنانية. فبين منطقتي المشرف والرميلة، مثلاً، سُجّلت هذه السنة عشرات عمليات السرقة لأسلاك الشبكة الكهربائية. وفي سبلين أيضاً نشطت بشكل يومي حركة سرقة كابلات النحاس (الوكالة الوطنية للإعلام). وفي اواخر 2021، اُلقي القبض على 20 متورطاً في عمليات سرقة كابلات عن الشبكات العامة والخاصة في مناطق عدة في الشمال. تستفيد هذه «العصابات» من العتمة وانقطاع الكهرباء أصلاً معظم الأوقات، ولكن لا تسلم الامور من الحوادث دائماً. ففي لحظة، بشرارة أو بسلك مكشوف، يمكن أن يخسر السارق حياته.التحقيق في الإصابات والوفيات الناجمة عن الصعق الكهربائي، بشكل عام، يتطلّب كثيراً من الحيطة والحذر وبعض الشك، لأنه غالبًا ما يتم التعامل مع الأمر كحادثة عرضية. وفي بعض الاحيان، إذا كان التيار مُنخفض الجهد (أقل من 1000 فولت) مثلاً، فقد لا تظهر علامات واضحة خاصة بالإصابات الكهربائية على جسد الضحية.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

الخطوة الأولى في التحقيق تكون بالتأكد من سلامة المكان وإمكان وجود مياه أو عوامل مناخية او ظرفية تزيد من خطورة الموقف وتعرّض الأشخاص لخطر إضافي. فإذا تم اكتشاف جهاز معطلّ أو سلك مكشوف، تُقطع الكهرباء عن الغرفة، أو ربما المنزل بأكمله. وإذا كان الأمر يتعلق بمصدر كهربائي تجاري (خطوط الكهرباء الأساسية، عواميد الانارة، مولدات خاصة…)، من الضروري اعلام شركة الكهرباء او اصحاب المولدات بالحادث لقطع التيار الكهربائي الأساسي ومعاينة الأضرار. ومن المهم التحقيق مع هؤلاء لمعرفة نسبة المسؤولية التي يتحملونها، حتى لو كان الأمر بالفعل حادث، وما إذا قاموا بأعمال الصيانة بشكل دوري، وتمّ التأكد من سلامة المعدات والأسلاك الكهربائية، والتقيد بمعايير السلامة العامة لحماية الأفراد من الحوادث العرضية.
بعد التأكد من سلامة المشهد، يُفترض توثيق مكان الحادث الذي يمكن أن يكون مسرح جريمة، مع الإشارة الى وضعية الضحية وحالتها، وتحديد الاضرار الموجودة في المكان والجهاز الكهربائي الذي قد يكون سبب الحادث.
ومن المهم تصوير الجهاز وتحليله باستخدام الأشعة السينية (x-ray)، وفحصه بعناية من قبل الخبراء لمحاولة معرفة سبب الحادثة (الإهمال، سوء الاستخدام والصيانة، مشكلة في الأسلاك...). في هذه الحالات، يعمل المهندسون الجنائيون على فحص الجهاز لتحديد سبب العطل الكهربائي، وما إذا كانت الاضرار الكهربائية الناتجة عنه تتوافق مع الاضرار الموجودة في مكان الحادثة وعلى جسد الضحية. وبناءً على الأدلة والمعطيات، يتم اختبار عدة فرضيات من خلال التحاليل والتجارب الهندسية. ومن ناحيةٍ أخرى، فقد يظهر هذا الفحص أنّ الجهاز تمّ التلاعب به، ما قد يثير الشكوك في وجود نيّة جرمية.

مسار التيار الكهربائي في الجسد
يعمل الخبراء على تحليل المسار الذي سلكه التيار الكهربائي في جسد الانسان، ما يُتيح - في معظم الحالات - امكانية تحديد نقطة دخوله وخروجه. عادة ما يتبع التيار الكهربائي المسار الاقل مقاومة والاسهل، تاركاً وراءه اصابات مختلفة. فيظهر تقرير الطبيب الشرعي انواعاً مختلفة من الاصابات يمكن ان تشمل كسوراً في العظام وتلف الأعصاب وحروق الأنسجة وتوقف عضلة القلب. وكل هذا يعتمد على عدد من العوامل مثل نوع التيار الكهربائي وكمية الطاقة وقوتها، ونوع المصدر الكهربائي ومدة التعرض للصدمة الكهربائية. فالتعرض القصير للتيار العالي، مثلاً، سيُطلق كمية كبيرة من الطاقة الحرارية، ما يتسبب في تلف الأنسجة على نطاق واسع مع تفحم الجلد.
لذلك يساعد تحليل مسار التيار الخبراء في تحديد كيفية بدء الحادث وتسلسل الاحداث، سواء لمس الشخص السلك باليد أو سقط سلك كهربائي على صدره. وقد تشير الإصابات الميكانيكية وبعض كسور العظام والكدمات إلى سقوط الشخص بعد تعرضه للصدمة، ما يساعد الخبراء على فهم وضعية الجسد قبل الوفاة. وتتم مقارنة هذه النتائج بالظروف المُحيطة بالوفاة وبحالة مكان الحادثة ونوع وقوة المصدر الكهربائي الموجود وافادة الشهود. وأي تضارب في هذه المعطيات قد يغيّر مسار التحقيق.

الحروق الكهربائية
الحروق الكهربائية الجلدية تُعتبر المعيار الذهبي لإثبات الوفيات المرتبطة بالصعق الكهربائي. لدى التعرّض لصعقة كهربائية سيكون هناك حرق في نقطة دخول التيار إلى الجسم وفي نقطة خروجه. هذا النوع من الجروح مميزٌ في شكله. ويكون عادةً على شكل حفرة صغيرة هوامشها مُحترقة بنيةّ وسوداء اللون.


وقد تكون العلامات مخفيّة بين ثنيات الجلد او الشعر. على سبيل المثال، إذا كان الشخص واقفًا ولمس سلكًا كهربائياً، سينتقل التيار إلى أسفل قدميه ليخرج من الجسم. وإذا كان الشخص يتكئ على طاولة، فإن التيار سيغادر الجسم عبر الجزء المتصل مع سطح الطاولة، سواء من خلال الصدر أو البطن. لذلك، تساعد هاتان النقطتان في تحديد وضعية الجسد قبل الحادثة، ما يساهم بدوره في اعادة بناء الاحداث وفهم الظروف المُحيطة بالوفاة. إلى ذلك، ينظر الخبراء إلى نسبة تمعدن الجلد. التحليل المجهري والميكروسكوبي والكيميائي للجلد وعلامات الحروق مهم جداً للتأكد من أنّ الحروق هي فعلاً نتيجة الصدمة الكهربائية، خصوصاً في الحالات التي لا يمكن تمييزها عن الوفيات الطبيعية أو المفاجئة بسبب عدم وجود علامات واضحة (مثل الحروق الكهربائية) على جسم الانسان او في مكان الحادثة/ مسرح الجريمة.
التحقيق في الإصابات والوفيات الناجمة عن الصعق الكهربائي يتطلّب بعض الشك لأنه غالبًا ما يتم التعامل مع الأمر كحادثة عرضية


تُساهم التقنيات الكيميائية والنسيجية والطيفية بإثبات وجود الاملاح المعدنية المُترسبة على هذه الانسجة. ويستخدم الخبراء مجهراً إلكترونياً مُجهزاً بمحلل دقيق للأشعة السينية، لمعاينة الانسجة وللكشف عن وجود معادن معيّنة مثل الحديد والنحاس والزنك، لأنه مع مرور التيار الكهربائي في الجسم، تتحد الأيونات المعدنية من الأسلاك والكابلات الكهربائية مع الأنسجة.
دراسة تمعدن الجلد لا تساهم فقط في إثبات أنّ الجسد تعرض لصدمة كهربائية. بل تساعد الخبراء، من خلال تحديد نوع المعادن المُترسبة، في وضع فرضيات في ما يخصّ الآلة ونوع الأسلاك الكهربائية التي سببت الحادثة.



مع العتمة... أزمة مياه
العتمة وزيادة ساعات التقنين في بلد يعاني اصلاً من أزمة في قطاع الكهرباء، ليست المشكلة الوحيدة التي تُرافق انتشار هذا النوع من السرقات. فهذه العمليات تطال مؤسسات حيوية مثل مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان مؤخراً، التي تعاني من التقنين القاسي وصعوبة تغذية المناطق والأحياء وانقطاع المياه بسبب الأعطال والسرقات التي استهدفت الشبكات ومحطات الضخ. وبسبب الأزمة الاقتصادية وارتفاع سعر صرف الدولار، يصعب تأمين المعدات البديلة التي لا توجد ضمانة حقيقية بعدم تعرضها للسرقة مرة أخرى إذا لم تؤخذ الإجراءات اللازمة لحراستها وحمايتها وملاحقة السارقين والمُخربين ومحاسبتهم.
وبذلك تزداد المعاناة والضغوطات والتحديات أمام أهالي المناطق والبلديات والمؤسسات العامة والخاصة وقوى الأمن.