لا خصوم للمقاومة في لبنان!نعم، ليس هناك من خصوم لبنانيين (ولا عرب) للمقاومة. الخصومة زعم كاذب لا وجود له. وعلى ما يعلم اللبنانيون ويذوقون يوماً بعد آخر، فالخصومة بالنسبة لزاعميها، وسيلة من وسائل «الوصول» السهل ليس إلا. وهو وصول يتفاوت ويتنوّع بين الموقع السياسي أو المكانة الثقافية أو المنزلة الاجتماعية أو حتى الرصيد المالي البحت. وكل من يدّعي الخصومة أو يشهرها، هو، في الواقع، منتحل صفة. ويعنيه منها ما تتيحه من عوائد وتوفّره من مزايا، وهي بفضل «السفارات» الناشطة «مغرية» له ولأمثاله من لقطاء الأوطان. بل هو، في الحقيقة، عدو مقنّع أو عميل «مستتر»، وإن ظنّ أنه غير ذلك فلأسرار نفسه المشبّعة بالسوء.
اللبنانيون الذين يسمّون أنفسهم «خصوم» المقاومة هم امتداد قصدي، أو عفوي، لأعدائها الخارجيين. بل وأدوات وضيعة يجب أن ينطبق عليهم ما ينطبق على العدو لجهة وجوب المواجهة والمعاقبة وزجّهم في السجون.
تبديد الالتباس ضروري. لأن هناك، بين «الناس»، من يصدّق خرافة الخصومة ويسكت عنها أو يسمح بها. ولأن هناك أيضاً بين «الخصوم» المزعومين، إن لم يكن كلهم، من يستتر بها ويبني عليها لإخفاء عمالته وتبريرها.
طبعاً، هذا «الجزم» لا يمنع من وجود أصحاب التقييم النقدي (المهم والحيوي للمقاومة، وإن غاب فعليها واجب إيجاده). لكنهم، قطعاً، لا يشبهون الخصوم المزعومين بشيء. فهم، وعلى خلاف أولئك التعساء، أصحاب قيم ومبادئ ومثل سامية وعابرة، تشمل إلى الأرض السماء أيضاً، وتعنيهم المقاومة وفكرتها قبل تنظيمها أو تنظيماتها. وحرصهم على المقاومة لا يقلّ عن حرص المقاومين أنفسهم، ولأنهم كذلك فإنهم لا يبخلون عليها بواجب النقد ومسؤوليته، وهو ما تعلّمناه من صديقنا ورفيقنا ومعلمنا جوزف سماحة. لكن الأهم، عندهم، أن عدم التطابق لا يقود إلى التعارض ولا إلى التباين.
التساهل مع العملاء الصغار على نحو ما عبّرت وتعبّر عنه الأحكام القضائية الهزلية، منح ويمنح العملاء الكبار، بالمال والسلطة، الهوامش المطلوبة التي تتيح لهم الاستمرار في مواصلة عمالتهم والإيغال بها.
إذ غالباً ما يقود التساهل غير المبرر أو التسامح غير المدروس إلى القراءات الخاطئة. وهذه هي الحال مع أعداء المقاومة، ونكرر لا خصومها، إذ لا خصوم للمقاومة في لبنان. ليس لأن لا وجود لمن هو أهل للخصومة وحسب، بل لأن منتحلي صفة الخصومة هم في الواقع والممارسة أعداء صغار يمنعهم جبنهم وصغارهم من إشهار وجوههم الحقيقية، ولو أنها بالنسبة لغالبية اللبنانيين مكشوفة ولو استترت بـ... الثقافة أو السياسة أو الطائفية...
طبعاً ثمة فوارق بين عميل وآخر. فهناك عميل يعي ويعلم وعميل لا يعي ولا يعلم. لكن هذا الفارق لا يغير في الأمر شيئاً ولا يجب أن يغيّر. فالعميل عميل، وإدانته واجبة، بل ومسؤولية وطنية وإنسانية وأخلاقية وأدبية.
وعليه، يمكن القول، وبوضوح، إن لا معنى لدعوات التطبيع الفاضحة مع العملاء، على نحو ما تزعق به ألسنة التآمر وأبواق الحقد، المكتوب منها أو المسموع أو المتلفز، إلا كتمهيد يسبق أو يلي التطبيع الذي يرجونه مع العدو، أو يراهنون عليه. التدقيق في المشهد السياسي اللبناني المرافق لهذه الدعوات، أو المحيط بها، يكشف، وبأوضح ما يكون، أنها لا تعدو أن تكون محاولة متجددة ويائسة للتمويه على انخراطهم الذيلي في المشروع الأكبر الساعي إلى تمكين إسرائيل من استعادة المبادرة التي فُقدت مع تحرير العام 2000 المجيد، وانعدمت، أو تكاد، مع انتصار تموز 2006 التاريخي... وها هي، اليوم، تتلاشى أو توشك مع «سقوط» يائير لابيد في امتحانه العسكري - السياسي الأول، ومعه من معه من جنرالات تخصّصوا في سحق العظام وأبدعوا في قتل الأطفال وتفوّقوا في تدمير البيوت... في شراك المقاومة في غزة، وإخفاقهم البيّن في مهمة النيل من «حركة الجهاد الإسلامي» برغم المزاعم والصخب المغاير والتي لا تنفي حقيقة الجراح التي أصابت «التنظيم» المقاتل، لكنها جراح الحرب، إذ لا حرب من دون جراح.
ولا معنى لأي من دعوات «الحياد الناشط»، أو غيره من التلفيقات المشبوهة، إلا بوصفها مساهمة عضوية، مدفوعة الأجر، ومحفوظة الثواب، في الدنيا على حساب ما يسمّى بالآخرة، في المشروع إياه.
بل إن المعنى الوحيد لكل ما تقدم ينطلق من أكذوبة يمينية لبنانية تاريخية (و«يساروية» طارئة) مفادها أن إسرائيل ليست عدواً! وأن إسرائيل هذه، التي تواصل احتلال مساحات لبنانية، لم تعتد على لبنان أبداً، ولم تدمّر قراه، ولم تحتلّ مدنه، ولم ترتكب المجازر، ولم تنشئ المعتقلات، ولم تنكّل بشباب لبناني قام بواجبه ودافع عن أرضه وحمى أهله. وأن ميليشياتها اللبنانية العميلة التي تطوعت لأقذر الأدوار وأحطّها وارتكبت القتل والتعذيب لآلاف مؤلّفة من أهل الجنوب والبقاع وبقية المدن والقرى اللبنانية، ليسوا بعملاء ولا بخونة. وقد لا يتأخر اليوم الذي تصل فيه الأطروحة التافهة هذه حد المطالبة بوجوب تكريم الهاربين منهم إلى إسرائيل وتقليدهم الأوسمة!
لا يريد رعاة حملات الدفاع عن العملاء، الذين ارتكبوا الفظائع الوطنية والإنسانية، من غالبية اللبنانيين، الذين لا يرون ما يرونه، إلا محو ذاكرتهم المكويّة بنار الاعتداءات وأشكال القتل وصنوف التعذيب. والغريب بالنسبة لهم، بل والمفاجئ، أن هناك من يستكثر عليهم، وعلى راعيهم، الهمّام المحايد، مطلبه المتواضع هذا، والمغلف بأكثر من غلاف وغلاف، آخرها الغلاف الديني... إلخ.
ما من عميل كان يجرؤ، أو يتصور، حتى في أزهى أحلامه، أن يأتي يوم يُسمح له فيه برفع الصوت والمناداة باستعادة «حقوق» المواطنة اللبنانية التي خانها ومرّغ أبسط مقتضياتها السياسية والإنسانية والأخلاقية والاجتماعية في وحل العمالة القذر. وفي المقابل، ما كان اللبنانيون ليتخيّلوا، على اختلاف ميولهم وتضاربها، أن يأتي يوم يسمعون فيه صوت العمالة ينادي بالصفح المجاني وبنسيان ما ارتكبه «أبناؤه» من جرائم قتل وتعذيب وسرقة واغتصاب...
لكن لقوانين الاجتماع اللبناني الطائفي والزبائني... خصوصية تجعلها قابلة لكل مستحيل. ولو بلغ، هذا المستحيل، حد تشريع العمالة وقوننة الخيانة، وإعلانها حرباً لا لبس فيها لتشريع العمالة وتعميمها وصولاً إلى تحقيق الأهداف التي يعجز عنها المشغّل الدولي وأذنابه الإقليميون من عرب خانوا وعرب باعوا وعرب طبّعوا وعرب استبدّوا.
فالتخصّص القديم - الجديد في التصويب على المقاومة بما مثّلته وتمثله من حركة تحرير وطني وقومي عربي، يندرج في الإطار الإسرائيلي المرسوم بعناية للتعويض عما تعذّر واستحال. وهي مهمة يراد منها التعويض عن عجز الكيان المتفاقم، وخشيته المتعاظمة من الاقتراب من المقاومة اللبنانية أو المسّ بأي من معادلاتها السياسية والعسكرية والأمنية الراسخة والتي كان آخرها «الغاز مقابل الغاز». هذه المعادلة المشغولة بدقة وإتقان، شكلاً وتوقيتاً والتي نزلت على إسرائيل كالصاعقة فأربكت حساباتها، وشلّت قدراتها المشلولة أصلاً برغم كل الدعاوى المناقضة، تضع إسرائيل، وجميع من معها، في مأزق حقيقي لم يخطر لهم على بال.
بقي أن نقول إنه بالإضافة إلى خصوم المقاومة المزعومين ثمة «أصدقاء» وحلفاء لا يقلّون عنهم لا كذباً ولا رياء، وهؤلاء لهم وقفة خاصة لن تتأخر.