يعاني «أمير» من اضطرابات عاطفية نتيجة سجن والده بتهمة قتل. إلى جانب التعامل مع مشاعر الحزن والقلق والرفض، على «أمير» أن يتعامل مع وصمة العار المرتبطة بوجود والده في السجن، ما يثير سخرية زملاء الدراسة منه ويؤثر في حضوره ودرجاته. لسبب ما، يشعر «أمير» بالمسؤولية عن سلوك والده، ويتمنى لو أنه حاول جاهداً لوقف تعاطي والده للمخدّرات.وقد دخلت أسرة «أمير» في أزمة مالية مفاجئة، بعد أن كان الوالد هو المعيل، لذلك تضطر والدته إلى الابتعاد عن المنزل لفترات طويلة لتأمين لقمة العيش، ما زاد شعور «أمير» بعدم الاستقرار.
أمّا «هنادي» فتشعر بالحزن والتوتر بعدما تُوفيت والدتها في حادث دهس وتمكّن الفاعل المخمور من الإفلات من العقاب. لم تستعدّ «هنادي» لفكرة رحيل والدتها المفاجئ، ولم تتقبل الخسارة، وتنتابها الأفكار الانتقامية لأخذ حق والدتها. بمرور الوقت وبعد التعرّض للخسارة وخيبة الأمل بعد الإحباط، يظهر الغضب بشدة على «هنادي»، والتي أصبحت تخاف من المستقبل، وتشعر بالقلق من أن يتركها والدها وحدها.
«أمير» و«هنادي» تراجعا في دراستهما، ويعانيان من اضطرابات في النوم وكوابيس مزعجة. تغيّرت الحياة فجأة بالنسبة إليهما.
كلاهما «غير مرئيَّيْن» في نظام العدالة الجنائية. وكلاهما تتأثر حقوقهما ورفاههما في كل مرحلة من مراحل الإجراءات الجنائية.

أطفال «الجناة»
رغم أن كل حالة فريدة من نوعها وأن كل طفل يستجيب بطريقة مختلفة، أثبتت الأبحاث أن سجن أحد الوالدين يمثل عدة تهديدات لرفاهية الطفل العاطفية والجسدية والتعليمية والمالية.
تتحدث الخبيرة النفسانية المحلَّفة لدى المحاكم، كريستل بسترس، عن التأثيرات النفسية في أطفال الجاني، وتؤكد أن هناك عوامل عدة تؤثر في تلك العوارض وحدّتها، أبرزها من هو الموقوف (الأب أم الأمّ)، مدة العقوبة، وجنس الطفل، إضافة إلى التداعيات الاقتصادية، خصوصاً إذا كان الموقوف هو المعيل الاقتصادي للعائلة.
بحسب بسترس، يؤدي توقيف أحد الوالدين إلى تغيير في ديناميكية العائلة ويؤثر تأثيراً مباشراً في توزيع الأدوار في العائلة، ما يؤثر مباشرة في نفسيات الأبناء وشعورهم بالاستقرار.
إضافة إلى ذلك، فإن ردّات فعل المحيطين والمقربين والمجتمع، وأحياناً الإعلام، تؤثر في طريقة تفاعل الأولاد مع المشكلة وتقبّلهم للواقع.
لا يتلقّى أولاد الجناة الدعم والمساعدة والاهتمام التي يتلقّاها أبناء الضحايا وتكون ردّة فعل المجتمع والمحيط سلبية جداً ومدمّرة لنفسيّاتهم


ومن العوارض النفسية والنفسية - الجسدية، تذكر بسترس: قلة الثقة بالنفس، عدم تقدير الذات، الخجل، النكران وعدم تقبل فكرة أن والدهم جانٍ (أو والدتهم) جانية.
وتؤكّد بسترس أن صورة الوالد(ة) الجاني(ة) تزعزع شخصية الأولاد وتؤثر في تكوين هويتهم، فتنتابهم حالات من القلق والانعزال والانطواء واضطرابات في النوم وكوابيس وتراجع في المدرسة. أما في حالة أولاد المحكوم بالإعدام، فإن التأثيرات النفسية تكون أكبر وأكثر تعقيداً، ويعيشون حالة تسمى «صدمة الإعدام». وعادة لا يتلقّى أولاد الجناة الدعم والمساعدة والاهتمام التي يتلقّاها أبناء الضحايا، بل على العكس، تكون ردة فعل المجتمع والمحيط سلبية جداً ومدمّرة لنفسيّاتهم.

أطفال «الضحايا»
من جهة أخرى، لتحديد الآثار النفسية على أولاد الضحية، يُفترض الأخذ في الحسبان عوامل عدة، كأعمار الأولاد ودرجة نضوجهم النفسي، خصائصهم الشخصية وطريقة تفاعلهم مع الأمر، إضافة إلى تأثير المحيط والمجتمع في الأولاد ومساعدتهم على تقبل فكرة «الخسارة». وبحسب بسترس، بصورة عامة، إنّ كل فرد يفقد شخصاً مقرباً له يمر في خمس مراحل للحداد هي:
- النكران، الغضب، المساومة، الاكتئاب وتقبّل الخسارة.
إلا أنه في حالة «أولاد الضحايا» الذين لم يخسروا الشخص بصورة «طبيعية»، وإنما هناك «مسبب» يتمثل بشخص ما (أو أشخاص)، فيكون هدفهم الأساسي هو الانتقام و«أخذ حق» الضحية. من هنا تلعب الإجراءات القانونية دوراً مهماً في تخطي الأولاد مراحل الحداد ووصولهم إلى المرحلة الأخيرة وتقبلهم للخسارة. فغالباً ما يشعر الأولاد بالغضب وتتكون لديهم أفكار انتقامية، خصوصاً إذا شعروا بأن السلطة القضائية لم تُنصفهم ولم تعاقب الجاني. فإفلات الجاني من العقاب يصعّب عبور مراحل الحداد الخمس على أولاد الضحايا، وعلى مدى تقبّلهم الخسارة. إلى جانب ذلك، يمكن أن يشعر الأولاد بالخوف من أن يتكرر ما حصل مع الضحايا معهم، فيعانون من حالات هلع وقلق واضطراب في النوم واكتئاب.



سلوكيات يصعب التنبّؤ بها

أرشيف (مروان طحطح)

تتباين حالات الاكتئاب والعدوانية بين أطفال الآباء المسجونين حسب الجنس والعمر والوضع العائلي. ومن المثير للاهتمام، أنه في بعض الحالات يمكن أن تنخفض العدوانية لدى أولئك الأطفال الذين يرون أن المنزل أصبح أكثر استقراراً وأماناً عند سجن أحد الوالدين، في الحالات التي يكون فيها الوالد(ة) يعاني من مشاكل المخدّرات أو الكحول.
من ناحية أخرى، هناك قلق خاص من أن يؤدي سجن أحد الوالدين إلى سلسلة من السلوك الإجرامي بين الأجيال، ولكن من الصعب فهم هذه السلوكيات أو التنبّؤ بها. فقد وجدت إحدى الدراسات، على سبيل المثال، أن أطفال الأمهات المسجونات لديهم معدلات سجن أعلى بكثير - واعتقالات أبكر وأكثر تكراراً - من أطفال الآباء المسجونين. على الرغم من أننا بحاجة إلى مزيد من البحث حول هذه العلاقة، إلا أن هذا التباين قد يتحدث عن احتمالية أن الأم، على الأرجح، هي الداعم الأساسي للطفل.


الخبير النفساني الجنائي
بحسب بسترس، يقوم الخبير النفساني في المحاكم بتقييم شامل لشخصية المتهم، لمعرفة ما إذا كان لديه أي مرض أو اضطراب نفسي. وهذا التقييم الشامل يرتكز على تقنيات متنوّعة تستهدف تكوين شخصية المتهم والديناميكية النفسية والمستوى الإدراكي. ومن خلال هذا التقييم، يكون الخبير قادراً على تحديد ما إذا كان يوجد تدخل للحالة النفسية للمتهم في ارتكاب الجريمة وبالتالي تقييم مسؤولية الجرم ومدى خطورته. في هذه الحالة، يساعد الخبير على فهم حالة المتهم والدوافع الجرمية، ويكون قادراً على مساعدة القضاء لتعزيز معايير العدل والإنصاف. أمّا في لبنان، فلا يمارس الخبير النفساني دوره بشكل واسع وفعّال. من هنا، أهمية الاستعانة بالخبراء النفسيين الجنائيين لمساعدة القضاء في فهم حالة الشخص بشكل كامل، ولا سيما حالته النفسية.