«نريد العودة إلى وطننا»
سمعت هذه الكلمات عبر الأخبار قبل 54 عاماً (1968). وأعتقد أن هذه الكلمات جعلتني أفهم ماهية النضال الوطني الفلسطيني. ذلك كان تعبير ليلى خالد من على متن الطائرة المختطفة خلال توجهها إلى تل أبيب وأثناء طيرانها في سماء حيفا المحتلّة. كان الشعب الياباني يحتشد آنذاك يومياً في تظاهرات للسلام من أجل فيتنام ولإدانة الغزو الأميركي، فيما لم يلحظ أحد حقيقة القضية الفلسطينية الناتجة من الغزو الإجرامي الإسرائيلي، باستثناء بعض الصحافيين والباحثين الجامعيين. بدأنا نحن، وكنا مجموعة صغيرة جداً، حملة لإظهار حقيقة القضية الفلسطينية للشعب الياباني. طرحنا بديهيات مثل أن القضية الفلسطينية أساسها الغزو الإجرامي من قبل إسرائيل المصطنعة بدعم من الولايات المتحدة والدول الأوروبية. وأن أكثر من مليون ونصف مليون فلسطيني طردوا من وطنهم الأم على يد الأجهزة الصهيونية. وفي الوقت نفسه، كانت بعض الطوائف الدينية تدعو للاستيطان في فلسطين المحتلّة تحت شعار: «دعونا نذهب إلى الكيبوتس. حيث يبني الشعب الديمقراطية الحقيقية في المزارع النموذجية». إذ حاولوا تصوير إسرائيل كالحلم الرومانسي. لذا، وكواحد من أهم أنشطتنا التضامنية، كنا نحاول تصوير الصراع بعرض حقيقة «إسرائيل» التي نعرفها على عكس الحملات الصهيونية .

«التسلّح الكامل والانتفاضة الشاملة»
خلال عودتي من مهرجان كان السينمائي عام 1971، سنحت لي الفرصة لزيارة مخيمات اللاجئين الفلسطينيين ومراكز التدريب على الكفاح المسلّح في دول عربية مثل لبنان وسوريا والأردن ومصر. حلمت بهذه الرحلة منذ سمعت تعبير «نريد العودة إلى وطننا». كانت تلك الرحلة تجربة ثورية لناحية معاينة واقع النضال الفلسطيني بدءاً من البيئة الحاضنة لحرب الشعب المسلّحة في مخيم اللاجئين، وصولاً إلى الاشتباكات مع الاحتلال الإسرائيلي.
الشعب الفلسطيني كان جدياً في ما يتعلق بمصيره في القتال من أجل العودة إلى الوطن الأم، ويتساوى نضاله للعودة مع جهود أبنائه للحفاظ على الحياة اليومية بثقة فكرية وقناعة بضرورة الكفاح عبر التسلّح الكامل. كانت تلك التجربة بالنسبة لي دراسة لجوهر حركة التحرر الفلسطينية وضرورة لفهم الاستهداف الإسرائيلي المركّز لمخيمات اللاجئين. هذه المخيمات كانت رحم الكفاح المسلّح. سجلت الواقع الفلسطيني في أفلام وثائقية ودشنت حملات لعرض هذه الأفلام في كل مخيمات اللاجئين الفلسطينيين وفي جميع أنحاء اليابان. في خضم تلك العروض، عام 1972، هاجم ثلاثة شبان يابانيين مطار اللد في فلسطين المحتلّة وبحسب روايات الإعلام الغربي والياباني التي تم تداولها على نطاق واسع مستندة إلى معلومات عسكرية إسرائيلية، قتل الضحايا على يد الكاميكازي اليابانيين. اثنان من الثلاثة، «باسم» أوكاديرا و«صلاح» ياسودا، أطلقا النار في جميع الاتجاهات حتى نفدت ذخيرتهما وفجّرا نفسيهما بقنابل يدوية. أما «أحمد» أوكاموتو فلم تنفجر القنبلة اليدوية التي استخدمها. اعتقل أوكاموتو وحوكم في محكمة عسكرية إسرائيلية حيث أعلن: «نحن جنود قاتلنا في ساحات القتال في إسرائيل. حاولنا أن نموت وأن نصبح نجوماً في مدار الجوزاء».
أعجبت الشعوب العربية بهذه العملية وشهدت بعض العواصم العربية تظاهرات حاشدة رفعت فيها شعارات: الموت لإسرائيل والصهيونية، يحيا الفدائيون.
انقسمت حركة التضامن مع الشعب الفلسطيني في اليابان بعد عملية مطار اللد. فمن ناحية، يجسّد الكفاح المسلّح قيم العدالة مثل التحرير، ويُعد كفاح المتطوّعين في النضال العالمي جزءاً من العدالة. ولكن من ناحية أخرى، اعتبرت الحكومة اليابانية ووسائل الإعلام أن الأنشطة التطوّعية يجب أن تقتصر على أنشطة التضامن غير العنفية مثل دعم مخيمات اللاجئين.
عام 1972، اقتحمت مجموعة من الكفاح المسلّح معروفة باسم «أيلول الأسود» دورة الألعاب الأولمبية في ميونيخ واحتجزت رياضيين إسرائيليين كرهائن لمبادلتهم مع أسرى فلسطينيين حكم على معظمهم في سجون عسكرية إسرائيلية. تأثرت الحكومة الألمانية التي تأسف للمذبحة النازية بحق اليهود، بمزاعم الجانب الإسرائيلي وشرعت في عملية عسكرية لإطلاق الرهائن، ما أدى إلى مقتل عدد من الرياضيين في تبادل إطلاق النار مع المنفذين الذين تمت تصفيتهم لاحقاً.
العديد من الناس حول العالم أسفوا لهذا الحدث المأساوي ووجهت انتقادات لأسلوب حرب العصابات، وانتقد كثر الحكومتين الإسرائيلية والألمانية لعنادهما في رفض التفاوض. خلقت هذه العملية مرحلة صعبة في النضال التحرري الوطني الفلسطيني، ما أدى إلى تضييق نطاق الكفاح المسلّح.

«بيروت هي هانوي أو ستالينغراد»
في حزيران 1982 كنا على خطوط المواجهة اليومية ضد إسرائيل في جنوب لبنان حين ادّعى الجيش الإسرائيلي أن هناك تهديداً عسكرياً ودبلوماسياً متزايداً من قبل التنظيمات الفلسطينية في لبنان، فشنّ هجوماً شاملاً على لبنان.
ما بدأ كهجوم جوي عبر غارات الجيش الإسرائيلي، توسّع إلى هجوم بنيّة احتلال لبنان. البعض منا، وكنا نقاتل في جبهات مختلفة، تجمّع في بيروت لمواصلة المقاومة لنحو شهرين. آنذاك كان شعارنا «بيروت هي هانوي!» بهدف تحرير فلسطين المحتلّة. لكن أثناء الحصار، تغيّر الشعار إلى «بيروت هي ستالينغراد!» أي الشعار نفسه الذي استخدمه الجيش الأحمر السوفياتي خلال قتاله الغزو النازي لروسيا. فيما كانت مكبّرات الصوت العسكرية الإسرائيلية تردد أسماءنا العربية واحداً تلو الآخر وتدعونا للاستسلام.
وحين تم التوصل أخيراً إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، انسحبت القوات الفلسطينية من بيروت وتفرقنا في أنحاء مختلفة من العالم العربي. بعد فترة وجيزة، وقعت مذابح على أيدي الميليشيات اللبنانية المتحالفة مع إسرائيل داخل مخيمات اللاجئين التي تحيط بها القوات الإسرائيلية. كان الأمر أقسى من قتل النازيين لليهود. حوّلوا مخيم للاجئين إلى ساحة إعدام وذبحوا حوالي 3000 رجل وامرأة من جميع الأعمار.
بعد ذلك اشتد الصراع بين القوى الفلسطينية المتبقية في لبنان والقوى الوطنية اللبنانية ضد عدوين معاً: العدو الأول وهو جيش الاحتلال الإسرائيلي والآخر هو الميليشيات المسلّحة الموالية لإسرائيل. بمشاركة الجيش الإسرائيلي استعرت الحرب الأهلية المستمرة في لبنان منذ العام 1975. ثم كان هناك نشاطان مهمان لحركة التضامن الدولية في ما يتعلق بمجزرة صبرا وشاتيلا: أولهما إطلاق مجموعة صور توثق الغزو العسكري الإسرائيلي للبنان والفظائع التي ارتكبت خلاله. بمبادرة من «اللجنة الدولية لمجزرة صبرا وشاتيلا» دعونا المصورين والصحافيين الذين غطوا المجزرة من كل أنحاء العالم، وجمعنا عدداً كبيراً من الصور الوثائقية التي تروي بوضوح حقيقة الغزو والمذبحة. معرض الصور الوثائقية أقيم في عدد من دول العالم ولاقى استجابة كبيرة. النشاط الثاني كان المحاكمة الشعبية أو محكمة الشعب لإظهار جرائم الغزو الوحشي للجيش الإسرائيلي للبنان. هذه المحاكمات عقدت على نطاق واسع في عدد من الدول الغربية واليابان، وشارك فيها مفكرون وعلماء ومحامون بارزون أطلق عليهم اسم أصحاب الضمير ومن بينهم محكمة راسل حول فلسطين.
وكان المتطوّعون من الأطباء والممرضات الذين كانوا يقدمون المساعدة للاجئين الفلسطينيين على الأرض شهوداً أحياء على جرائم القتل، ما أكد وحشية الجيش الإسرائيلي. وساهمت حركة التضامن الفلسطيني وحركة دعم اللاجئين والحركة التطوّعية الدولية بشكل كبير في تطوير هذه الأنشطة. كما أثبتت حركات التضامن الدولي قدرتها على حشد الدعم وإظهار الحقيقة، ليس فقط في المجال العسكري، بل أيضاً في المجالات الطبية والثقافية. وبرهنت أنها تستطيع أن تشكل قوة ضغط كبيرة.
كل ما جرى أثبت أن الجيش الإسرائيلي المسلّح بطائراته المقاتلة وأحدث الأسلحة لم يكن «أقوى جيش في العالم» بمواجهة مقاومة تستخدم أسلوب حرب العصابات يقودها مقاومون من القوى التحررية. وما جرى ساهم في توسع حركة التضامن الدولية مع فلسطين.