كُسر جمود المشهد القاتم الأسبوع الفائت: طُرحت إشكاليات قانونية حول صلاحيات السلطة القضائية بعد إصدار المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان مذكّرة أعطى بموجبها «صلاحيات الضابطة العدلية للقوى الأمنية عند تعذّر الاتصال بالنيابات العامة أو تمنّعها عن إعطاء إشارة قضائية بدعوى الالتزام بالإضراب». لم يتأخر رد مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات على طرح اللواء عثمان، فإعطاء الإشارات للقوى الأمنية هو من صلاحيات السلطة القضائية.
«تيسير الأمور» أو تخريبها؟
وضعت مذكّرة المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان في خانة «تسيير أمور الناس وضبط الجريمة وحماية الأمن والحدّ من تداعيات إضراب القضاة»، وأعطى بموجبها «صلاحيات الضابطة العدلية للقوى الأمنية عند تعذّر الاتصال بالنيابات العامة أو تمنّعها عن إعطاء إشارة قضائية بدعوى الالتزام بالإضراب».
مكي: تحديد 0.49% من موازنة الدولة لوزارة العدل التي تخضع السلطة القضائية لموازنتها يؤكد عدم الاهتمام بالمعالجة


أثارت هذه المذكّرة ضجة في الأوساط القضائية، كونها مسّت بصلاحيات السلطة القضائية وأعطتها للقوى الأمنية التي يفترض أن تعمل تحت إشرافها، لكنّ مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات وضع الأمور في نصابها من خلال كتاب وجّهه إلى اللواء عثمان لتعميمه على مراكز قوى الأمن يعيد التذكير فيه بإجراءات النيابة العامة في الجريمة المشهودة، مؤكداً أنّ «إجراءات التحقيق منوطة بإشراف النيابة العامة وفقاً لنصّ المادة 40 من قانون أصول المحاكمات الجزائية»، وأكد أن «على الضابطة العدلية في الجرائم المشهودة وغير المشهودة التقيّد بإشارة النيابة العامة المختصّة»، وفي حال «تعذّر الاتصال بالنائب العام الاستئنافي أو من ينوب عنه، وفي ظل الظروف التي تمرّ بها البلاد يقتضي الاتصال بالنيابة العامة التمييزية لأخذ إشارتها». وختم عويدات بأنّ «التوقيف وجمع الأدلة وغيرهما من الإجراءات في الجرم المشهود واجبة، كذلك الاتصال والأخذ بإشارة النيابة العامة واجبان أيضاً».
فتح كل ذلك باب النقاش حول مصير الموقوفين وصلاحيات السلطة القضائية في ظل اعتكاف القضاة المستمر، وأثار موجة من التفسيرات القانونية، فما رأي بعض أصحاب الاختصاص؟

فيصل مكي: محاولة لضرب السلطة القضائية وإذلالها
يرفض رئيس نادي قضاة لبنان القاضي فيصل مكي «التصويب على القضاة واعتبار اعتكافهم سبباً لتعطيل القضاء»، مؤكداً ضرورةَ «النظر إلى سبب المشكلة التي نعيشها اليوم وليس إلى النتيجة»، فالمشكلة الأساسية هي «في كيفية النظرة إلى السلطة القضائية»، مؤكداً «وجود محاولة لضرب هذه السلطة وإذلالها، هم يستخدمون الموضوع المادي لإخضاع السلطة القضائية، حتى قصور العدل محرومة من أقل مقوّمات العمل، ولا سيما الأوراق والقرطاسية والكهرباء والمياه».


وحول اتهام القضاة بعدم الرد على القوى الأمنية بسبب الاعتكاف، ردّ مكي قائلاً: «صحيح أن هناك اعتكافاً للقضاة، ولكنّ الأمور المستعجلة والملحة في الأصل يتابعها القضاة ويعملون على تيسير الأمور»، معتبراً أن الكلام عن عدم رد النيابات والقضاة «غير صحيح. قد يكون هناك قاض أو اثنان لم يردّا، والرئيس عويدات أصدر تعميماً قبل مذكرة اللواء عثمان يدعو فيها إلى التواصل مع النيابة العامة التمييزية في حال لم ترد النيابة العامة، هذا ما عاد وأكده بعد تعميم اللواء عثمان في كتاب الرد عليه». ويعتبر مكي أن «مذكرة اللواء عثمان كانت من دون موضوع بالأساس، لأن الأمور ماشية في ما يتعلق بالموقوفين». وانتقد مكي التعاطي المجحف مع السلطة القضائية، مشيراً إلى «أن الموازنة صدرت في خضمّ الأزمات التي نعيشها، وجرى تخصيص 0.49% من موازنة الدولة فقط لوزارة العدل التي تخضع السلطة القضائية لموازنتها، هذا يدلّ على عدم الاهتمام بالمعالجة وكيفية تحقيق ذلك». وتابع: «تكمن المشكلة في كيفية مقاربة معاناة القضاة وحلها فضلاً عن معالجة وضع العدليات المزري، هذه المعالجات يجب أن تكون حقيقية ومستدامة، وإقرار قانون استقلالية القضاء أساسي لحل كل هذه الأمور، لذا يجب أن يكون على رأس سلّم الأولويات».

ملحم خلف: القضاء يدير القوى الأمنية وليس العكس
«لا يمكن أن نترك الناس بدون مرجعية قضائية، خاصة في هذا الظرف القائم، والقضاء بحاجة إلى أن يعود بالحد الأدنى ويعطي إشارات في ما خص الناس الذين يقومون بأفعال جرمية جزائية» بهذه الكلمات يؤكد نقيب المحامين السابق النائب ملحم خلف أهمية القضاء، معتبراً أن «أيّ محاولة لتخطي صلاحيات القضاء هي محاولات خارج إطار القانون، وخارج إطار الدستور، وخارج إطار السلطة القضائية التي تدير القوى الأمنية وليس العكس».


وفي ما يتعلق بالنقاش حول قانونية مذكّرة اللواء عثمان، اعتبر خلف أن «لا ضرورة للاستشارات والآراء القانونية، نحن دولة برلمانية ديمقراطية، لا يمكن لأحد أن يتخطى الدستور ولا القوانين، الدستور اللبناني يكرّس مبدأ فصل السلطات، والسلطة القضائية تؤدي القضاء من خلال النيابات العامة التي هي رأس الضابطة العدلية في لبنان، وإذا لم يكن الأمر كذلك، فإننا نجعل من دولتنا دولة خارجة عن القانون بمفهوم القرار. وإعادة تصويب الأمور من البديهيات».
ويتابع: «الواقع المرير للقضاء غير مقبول والاعتكاف لا يعفي القاضي من اتخاذ قرارات وإشارات ملزمة، ولا يفترض أن يؤدي إلى عدم تحمل مسؤولية استمرارية المرفق القضائي». ويشدد على «ضرورة الإسراع في إيجاد معالجات للوضع الحالي للقضاء، من الممكن الضغط لتحصيل الحقوق، والقضاة محقّون في ما ينادون به ولكن ليس على حساب الناس الذين هم بحاجة إلى القضاء للتقاضي، حتى لا يبقى المجرم متفلّتاً من العقاب».

إبراهيم نجار: لا يمكن تجاوز السلطة القضائية مهما كلّف الأمر
عرض وزير العدل السابق وبروفيسور القانون في كلية الحقوق في الجامعة اليسوعية إبراهيم نجار لـ«القوس» واقع القضاء اليوم. هو الذي خَبِرَ أحوال المرفق القضائي وعاينها عن كثب، ينظر بكثير من الحسرة إلى الأوضاع في ظل الاعتكاف المستمر للقضاة، ويتابع ما جرى في ما يتعلق بصلاحيات القوى الأمنية في ظل اعتكاف القضاة، وكل النقاش الذي دار حوله ويقول: «قانوناً لا يجوز لقوى الأمن الداخلي أن تحل مكان القضاء.


مهمة هذه القوى حفظ الأمن وتوقيف المشتبه بهم، ومن ثمّ مخابرة النيابة العامة من أجل إعطاء الإشارة بالتوقيف أو الترك، ولا يمكن المس بصلاحيات القضاء تحت أي عنوان أو ظرف». ويضيف: «شخصياً كرجل قانون لا يمكن أن أتقبل فكرة أن تقوم القوى الأمنية مكان النيابات العامة، مدّعي عام التمييز هو المخوّل أن يقوم بذلك إذا تعذّر التواصل مع النيابات العامة أو من يحل مكانها قانوناً». ويتابع: «لا يمكن تجاوز السلطة القضائية أبداً، مهما كلّف الأمر، أنا على يقين أن النيابة العامة التمييزية لا تتوانى عن ممارسة واجباتها القانونية ووظيفتها. إذا حدث ذلك لا سمح الله، وأعتقد أنه لن يحصل، فإنه تعقيد خطير للمرفق القضائي».
وفي ما يتعلق بموضوع اعتكاف القضاة، أعرب نجار عن تفهمه لمطالب القضاة، وقال: «الاعتكاف يحدث في كل بلدان العالم ولكن يجري ذلك لفترة وجيزة»، منتقداً «استمرار الاعتكاف طول هذه المدة، فهذا أمر لا يقبله العقل والمنطق، فالاعتكاف أدى إلى تعطيل المرفق القضائي ككل، وإلغاء مهنة المحاماة وحتى فكرة التقاضي بين الناس كما أنه يؤدي إلى الدخول في منطق شريعة الغاب».
ويختم البروفيسور في القانون مؤكداً «أهمية الحفاظ على المرفق القضائي وضرورة تفعيل العمل فيه والحفاظ على دوره، حتى لا تتكرر مراحل صعبة مرّت على اللبنانيين، حين حكمت شريعة الغاب بينهم، ولا سيما في سنوات الحرب اللبنانية وبعدها في عام 1982».


تداعيات اعتكاف القضاة
يناشد المحامي والأستاذ الجامعي وليد حدرج القضاة والمعنيين للتحرك إزاء ما يطاول السلطة القضائية، معتبراً أن «الواقع الحالي للقضاء لم يعد يُحتمل، فتداعيات الاعتكاف أصبحت كارثية، وهي لم تعد تطاول فقط الجسم القضائي، بل طاولت الجسم الحقوقي برمّته، من أصغر مواطن إلى أكبر المعنيين، هناك اليوم حالة قضائية حقوقية معرّضة للخطر»، داعياً «الجميع للتحرك لمعالجة الاعتكاف، من أجل عودة القضاة إلى عملهم حتى لا نصل إلى ما لا تُحمد عقباه».
واعتبر حدرج أن «مضمون مذكّرة اللواء عثمان يمسّ بجوهر الأسباب الموجبة لتعديلات مواد عديدة ومنها على سبيل المثال المادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تحدثت عن الحقوق والحريات العامة وحقوق الإنسان، هذا المبدأ المحمي بموجب مقدمة الدستور»، مؤكداً أنه «لا يمكن تجاوز مبادئ دستورية عامة تحت عنوان تسيير الأمور، ولا يمكن الحديث عمّا يسمّى نظرية الظروف الاستثنائية أو القوة القاهرة. هناك ضرب كامل ومتكامل للحقوق والحريات المصونة بموجب الدستور».
ويتابع: «نحن لا نناقش أداء القوى الأمنية ولا نوايا القيّمين عليها. ما تم طرحه في المذكّرة هو من اختصاص السلطة القضائية. الدستور والقوانين المرعية حدّدا بدقة ووضوح أن القضاء المختص هو من يعطي إشارات، ولديه صلاحية حجز حرية إنسان».
وشدّد على ضرورة احترام القواعد الدستورية لأن «ما توصّلنا إليه من تعديلات لحماية الحقوق والحريات العامة استغرق الكثير من الجهد والنضال، لا يمكننا الرجوع سنوات إلى الوراء. أحترم النوايا، ولكن يجب احترام قواعد الدستور والحفاظ عليها، فعلى سبيل المثال هل يمكن اليوم بسبب شغور موقع رئاسة الجمهورية أن أنقل صلاحيات الرئيس إلى مجلس النواب أو إلى وزير العدل؟». وختم: «في الظروف الاستثنائية التي نعيشها من أقسم اليمين أولى بالحفاظ على الحقوق والحريات في هذا البلد ممن يعملون تحت إمرته».