ضجّت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي بخبر «وفاة الموقوف بشار سعود بسبب التعذيب»، وتم تداول صور جثته التي غطّتها الجروح والكدمات. في المقابل انتشرت ادّعاءات أخرى بأن وفاة الموقوف كانت نتيجة جرعة زائدة من المخدّرات. وفي 29 تشرين الثاني 2022، صدر قرار عن قاضي التحقيق الرئيسة نجاة أبو شقرا، استعرضت خلاله المحكمة العسكرية الوقائع والإفادات والأدلة، وأصدرت قراراً اتهامياً بملاحقة المسؤولين عن جريمة التعذيب التي أودت بحياة سعود أثناء التحقيق معه. ورغم أهمية هذا القرار في إطار مناهضة التعذيب وتعزيز معايير العدل والإنصاف، إلا أنه قد لا يكون رادعاً بالقدر الكافي لمنع ممارسة العنف على المشتبه بهم بهدف استخراج المعلومات وانتزاع الاعترافات. لذلك، يفترض معالجة المشكلة من جذورها عبر تأهيل الضابطة العدلية وتدريبها على كيفية استجواب المشتبه بهم وحلّ الجرائم من دون التعرض للموقوفين جسدياً أو معنوياً. (راجع القوس: «الأدلة الجنائية لا تكذّب ولا تخاف»، العدد 37)
(أنكي بلال ــ فرنسا)

ساعتان وخمس وعشرون دقيقة فصلت بين بدء التحقيق مع بشار سعود ووصوله جثة إلى المستشفى. مفوّض الحكومة توجّه إلى نظارة مركز تبنين ليتابع حقيقة الأمر. تم ضبط المحضر الذي كان خالياً من الترويسة، كما خلا من رقم أو تاريخ، ولم تُدوّن هوية منظّمه، أمّا موضوعه فكان العمل على توقيف المدعو بشار عبد العبيد الملقّب «أبو مهند» (أي بشار سعود). وتمّ تزويد مفوّض الحكومة بقرص مدمج يتضمن فيديو يظهر لحظة وصول الموقوف إلى قسم التحقيق في تبنين، وفيديو آخر أثناء التحقيق معه في فرع التحقيق الأمني، حيث كان يبدو بصحة جيدة.

في الوقائع
بتاريخ 30/08/2022، أوقفت دورية من شعبة المعلومات في المديرية العامة لأمن الدولة المشتبه به سعود، وتم تسليمه عند الرابعة من فجر اليوم التالي إلى قسم التحقيق في تبنين التابع لمكتب بنت جبيل، كونه مطلوباً لهذ المكتب للاشتباه بتورطه في قضايا إرهاب. وعند السابعة صباحاً من تاريخ تسليمه، نقلت سيارة للصليب الأحمر سعود إلى مستشفى تبنين جثة.

تناقض بين الإفادات والأدلة
في الصفحة الثانية من محضر نظارة تبنين، وردت ملاحظة مفادها أنه عند السابعة وعشر دقائق صباحاً، تعرّض الموقوف بشار سعود لوعكة صحية نتيجة تعاطيه المخدرات بحسب إفادته، وتمّ نقله على الفور إلى مستشفى تبنين الحكومي بواسطة سيارة للصليب الأحمر، وبمجرد وصوله إلى طوارئ المستشفى فارق الحياة.
ولكن، خلال التحقيق الأولي مع المدّعى عليهم لدى مديرية التحقيق المركزي، أفاد المدّعى عليه النقيب (ح. إ) بأن بشار سعود «أُحضر إلى مكتب بنت جبيل وهو بصحة جيدة، وأن بشار تصرف مع المعاون (ي. ب) بطريقة عدائية، وأن هذا الأخير انهال عليه بالضرب بواسطة شريط شاحن لهاتف خلوي وبالركل أيضاً، وأنه أمر المعاون بالتوقف عن أفعاله تلك، وتابع استجواب الموقوف الذي أدلى بتعاطيه المخدرات وبانتمائه إلى داعش. ولم تمض عشر دقائق حتى سقط بشار أرضاً، فأمر برمي المياه عليه ظناً منه أنه يدّعي الإغماء، وعندما لم يستفق تمّ نقله إلى المستشفى حيث فارق الحياة».
تناقضت إفادة المدّعى عليهم مع تقرير الطبيب الشرعي الذي عاين الجثة: «العوارض الطبية الظاهرة على الجثة تدل على أنه تعرض للضرب بعنف على كامل جسده (خاصة على الظهر والأطراف) ومن جميع الاتجاهات، بأدوات مرنة بعضها ذو حافة حادة (حزام مع بكلته أو نبريش). وبأنه لا يمكن تفسير وفاته بوقت قصير أي بعد أقل من ساعتين على وصوله مع كل هذه العوارض إلّا باستعمال قوة مفرطة أدت إلى الوفاة لأسباب متعددة: نزيف داخلي (كلوي وفي الطحال بسبب الضرب من الخلف)، أو صدمة نزفية (بسبب اتساع تمدد الأوعية الدموية الناتجة عن اتساع الكدمات) أو سكتة قلبية من كثرة الأوجاع والمجهود ونقص أكسجنة عضلة القلب الناتج عن هبوط في ضغط الدم، إضافة إلى سوابق مرضية إن وجدت، أو تناوله أدوية مخدّرة أو منشطة». وإلى ذلك، جاءت نتيجة الفحص المخبري لعيّنة البول التي تمّ سحبها من الجثة سلبية على 12 نوعاً من المخدّرات، من بينها الأمفيتامين وهو من مكوّنات الكبتاغون.

«ضربة الكف»
أفاد المدّعى عليه الرقيب أول (خ. ز.) بأنه «كان يكتفي بضرب الموقوف كفاً واحداً وأن ضربته قوية وكان يستخدم هذه القوة في جرائم «كبرى» كالإرهاب والمخدرات، أما في الجرائم الأخرى فتكون الضربة «خفيفة». وللتأكد من عواقب «ضرب الكف» استأنست القاضي أبو شقرا برأي الطبيب الشرعي الذي أفاد بأن هذا النوع من الضرب قد يكون خطيراً، خاصة إذا كان الفاعل يتمتع ببنية قوية، ما قد يسبّب نزيفاً دماغياً.

قرار القاضي نجاة أبو شقرا
في 29 تشرين الثاني 2022، أصدر قاضي التحقيق العسكري القرار رقم 160/2022 بملاحقة المسؤولين عن جريمة التعذيب التي أدت إلى وفاة بشار سعود. وتم الاتهام والظن بكل من قام بضرب وتثبيت الضحية، وطاول الاتهام كل من لم يعترض على التعذيب ولم يخرج من غرفة التحقيق أثناء التعذيب بموجب قانون 65/2017 لمعاقبة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة. وقد جاء في القرار:

أولاً: حفظ صلاحية القضاء العسكري لنظر الملاحقة الراهنة.
ثانياً: اتهام المدّعى عليهما النقيب (ح. إ.)، والمعاون (ي. ب.)، بموجب المادة الأولى من القانون 65/2017 البند ب/4، وإصدار مذكرة إلقاء قبض بحق كل منهما، والظن بهما بموجب المادة الأولى من القانون 65/2017 البند ب/1، وبموجب المادة 166 قضاء عسكري.
ثالثاً: اتهام المدّعى عليهما المعاون (ع. خ.) والمعاون (ف. ف.)، بموجب المادة الأولى من القانون 65/2017 البند ب/4، وإصدار مذكرة إلقاء قبض بحق كل منهما، والظن بهما بموجب المادة 166 قضاء عسكري.
رابعاً: الظن بالمدّعى عليه الرقيب أول (خ. ز.) بموجب المادة الأولى من القانون 65/2017 البند ب/1، وبموجب المادة 166 قضاء عسكري.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

لمزيد من الملاحقات
قرار القاضي أبو شقرا ليس الوحيد الذي يلاحق مرتكبي جرائم التعذيب بحق الموقوفين. وفي هذا السياق نستحضر قرار القاضي المنفرد الجزائي في بيروت هاني عبد المنعم الحجار، بتاريخ 8/3/2007، وأدان فيه أحد عناصر مفرزة بيروت القضائية بارتكاب جريمة التعذيب بحق عامل خلال التحقيق معه عام 2004. وذلك عبر استخدامه أسلوب «الفرّوج» (حين يتم ربط اليدين إلى تحت الركبة مع إدخال قسطل من الخلف وراء الركبتين). بعد إنكار المشتبه به ارتكابه جريمة التعذيب وإنكار استعماله أسلوب الفرّوج، استند القاضي إلى تقارير الطبيب الشرعي. حيث أثبت الطبيب في تقريره وجود إصابات ناتجة عن استعمال العنف والضرب الشديد والمتواصل في فترات مختلفة. كما تبيّن من الألوان المختلفة للكدمات، وشكل الإصابات أنها تتوافق مبدئياً مع الإصابات التي تحصل عند استعمال «وسيلة الفرّوج». فتمّت إدانة مرتكب جريمة التعذيب سنداً للمادة 401 عقوبات. (راجع الأخبار: «ضرب شديد في أحد مخافر "الفرّوج" في حكم قضائي للمرة الأولى»).

موسى: أولوية تطبيق المادة 47
يشدّد رئيس لجنة حقوق الإنسان النيابية النائب ميشال موسى لـ«القوس» على ضرورة «ألا يكون هناك تعذيب في أماكن التحقيق والسجون، ولا سيّما أن لبنان ملتزم بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان ووقّع على الاتفاقيات الدولية المناهضة للتعذيب، فضلاً عن كونه يخضع للمحاسبة الدورية من خلال منظمة الأمم المتحدة في ما خصّ الإخلال بتطبيق هذه القوانين».
أفاد المدّعى عليه بأنه كان يكتفي بضرب الموقوف كفاً واحداً، وكان يستخدم هذه القوة في جرائم «كبرى» كالإرهاب والمخدّرات، أما في الجرائم الأخرى فتكون الضربة «خفيفة»

وأضاف: «المطلوب من الأجهزة الأمنية أن تحافظ على تنفيذ القانون ضمن أسلاكها، ويجب أن تكون التحقيقات ضمن الأطر التي ينظمها القانون خاصة المادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تحافظ على حقوق المدّعى عليهم والمتهمين». وخلص موسى إلى «أننا نعيش في أوضاع غير سوية في لبنان، ومعدل الجريمة في ازدياد، والمطلوب من كل جهة أن تقوم بدورها حتى نحافظ على الأمن والاستقرار في البلد، الضابطة العدلية تتبع الأصول في التحقيقات، والقضاء يصدر الأحكام استناداً إلى القانون بالسرعة اللازمة وبالطريقة العادلة بحق كل من يخالف القانون».

جرجس: مئات الحالات موثقة
كما شدّد رئيس الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان فادي جرجس، على ضرورة ملاحقة كل مرتكبي جرائم التعذيب، خاصة أن هناك مئات الحالات التي توثّقها لجنة الوقاية من التعذيب في الهيئة، ولا سيّما أن ضحايا التعذيب لا يذكرون أسماءهم في الشهادات خوفاً من ملاحقة المرتكبين. وأضاف: «القرار خطوة أولى للوصول إلى تحقيق العدالة، فمبدأ المحاسبة ضروري لكل من يرتكب جريمة التعذيب في لبنان، وعندما يصدر القضاة القرارات التي تدين المجرمين، سيشكل ذلك رادعاً لباقي الأفراد إن كان من الضابطة العدلية التي تمارس التعذيب أثناء التحقيق أو غيرها».



مفهوم التعذيب
يرتبط مفهوم التعذيب الشائع بالضرب المبرح واستعمال الأدوات المختلفة، ما يلحق الأذى الشديد بإنسان أو يتسبب في وفاته. والمفهوم القانوني للتعذيب لا يقتصر على الضرب والإيذاء بل يشمل «أي عمل يقوم به أو يحرض عليه أو يوافق عليه صراحة أو ضمناً موظف رسمي أو أي شخص يتصرف بصفته الرسمية أثناء الاستقصاء والتحقيق الأولي والتحقيق القضائي والمحاكمات وتنفيذ العقوبات، ينتج عنه ألم شديد أو عذاب شديد، جسدياً كان أم عقلياً، يلحق قصداً بشخص ما، ولا سيّما: للحصول منه أو من شخص ثالث، على معلومات أو على اعتراف» (المادة 401 من قانون العقوبات معدّلة).


ليست مجرّد حبراً على ورق
لجريمة التعذيب أهمية كبيرة في النصوص المحلية كما الدولية في إطار مناهضتها، لِما تشكله من خطورة لمبدأ إحقاق الحق ولأمن المجتمع، خصوصاً إذا كان التعذيب من قِبل الضابطة العدلية، ما يعزز شك المواطن في دولة القانون كَون المسؤول عن حمايته هو الذي يرتكب جريمة بحقه.
انضم لبنان إلى اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، وإلى البروتوكول الاختياري للاتفاقية، بموجب قانونَيْن صدرا عامَي 2000 و2008. كما أقرّ القوانين التالية:
• قانون إنشاء الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان المتضمنة لجنة الوقاية من التعذيب (2016)
• قانون معاقبة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة (2017)
• قانون تعزيز الضمانات الأساسية وتفعيل حقوق الدفاع (2020) (راجع القوس: {مناهضة التعذيب.. قوانين للزينة}، العدد 37).


من هي القاضية نجاة أبو شقرا؟
القاضي نجاة أبو شقرا، من مواليد عام 1979.
عُيّنت قاضياً متدرّجاً بموجب المرسوم الرقم 6079 تاريخ 30/8/2001، وأصبحت قاضياً أصيلاً بموجب المرسوم الرقم 13368 تاريخ 10/9/2004.
هي أول قاضٍ سيدة في لبنان تتولى مركز قاضي تحقيق لدى المحكمة العسكرية، بموجب المرسوم الرقم 5079 تاريخ 1/10/2010، ولا تزال في هذا المركز حتى تاريخه.
عُيّنت عضواً في الغرفة الابتدائية في صيدا، ثم قاضياً منفرداً في عاليه.
شاركت في العديد من الدورات التدريبية، بعضها كمتدرب وبعضها كخبير أو كمدرّب.
هي مدرّب معتمد من البنك الدولي، ومقيّم لدى مجموعة العمل المالي لدول شمال أفريقيا والشرق الأوسط MENAFATF.



تولّت خلال عملها كقاضي تحقيق عسكري النظر في العديد من الملفات الخطيرة والحساسة في قضايا الإرهاب، من بينها ملف معارك عرسال، وملف معارك بحنين، وملف الخلايا النائمة التابعة للإرهابي أحمد الأسير، وملف زوجة أمير تنظيم داعش السابق أبي بكر البغدادي المدعوّة سجى الدليمي. وفي قضايا التعامل وقضايا مخالفة قانون مقاطعة إسرائيل من بينها ملف العميل عامر الفاخوري، ملف كيندا الخطيب وملف الإعلامية ماريا المعلوف، بالإضافة إلى قضايا المخدرات كملف كوكايين المطار وملف فقدان مضبوطات من مستودع مكتب مكافحة المخدرات المركزي.
نالت أخيراً شهادة الماجستير في القانون الجنائي الدولي من جامعة بيروت العربية بدرجة ممتاز، وهي تحضّر لنيل شهادة الدكتوراه.
لها مؤلَّف بعنوان «جرائم الإرهاب الإلكتروني في القانون اللبناني دراسة مقارنة» صادر عن «منشورات صادر الحقوقية»، إضافة إلى العديد من المقالات والدراسات المنشورة في المجلة القضائية، ودراسات محكّمة منشورة في مجلة الدراسات القانونية الصادرة عن كلية الحقوق والعلوم السياسية في جامعة بيروت العربية، ومجلة الحقوق والعلوم السياسية الصادرة عن الجامعة اللبنانية.