أصبح اللبناني بحاجة إلى مبلغ يفوق ما كان يتقاضاه بأضعاف لتأمين ما كان يشتريه سابقاً، في ظل فقدان الليرة اللبنانية لقيمتها بصورة جنونية والارتفاع المهول للأسعار وانخفاض القدرة الشرائية للمواطنين. ولا يختلف وضع العاملين في المجال القضائي من قضاة ومساعدين ومحامين وكتّاب عدل عن وضع الغالبية الساحقة من المواطنين الذين خسروا في المصارف ما جنوه في سنوات طويلة، وتدنّت قيمة أتعابهم وأجورهم حتى تكاد لا تكفي لتأمين أدنى مقوّمات العيش. وكما في كل أزمة، تغيب الدولة بسلطاتها التشريعية والتنفيذية عن القيام بواجباتها للحدّ من النتائج السلبية وضبطها، خصوصاً تلك التي تمسّ بصورة مباشرة بالمواطنين. وهذا ما دفع بعض الجهات القضائية والكُتاب العدل إلى فرض رسومهم وأتعابهم الخاصة بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ما أدى إلى فوضى في فرض الرسوم التي ظهر واضحاً التفاوت في استيفائها وغياب السند القانوني لها. ففي السجل التجاري في بيروت، يقول أحد المحامين إنه اضطر لوضع طابعين من طوابع صندوق تعاضد القضاة من فئة المئة ألف ليرة على إحدى المعاملات، بدل طوابع فئة الألف ليرة لعدم توفّرها في الصندوق. والمفارقة عدم توفّر طوابع فئة الخمسين ألف ليرة رغم طرحها حديثاً!
خلافاً لما تنصّ عليه المادة 99 من قانون الموازنة العامة للعام 2022، بأن «يستوفي صندوق تعاضد القضاة رسماً مقطوعاً قدره خمسون ألف ليرة لبنانية عن كل شكوى جزائية أو ادّعاء مباشر، يُدفع عند تقديم الشكوى أو الادّعاء المباشر وكذلك في كل مرحلة من مراحل التحقيق والمحاكمة، وأيضاً عند تقديم الدفوع والبتّ بها، وعلى كل تقرير صادر عن خبير أو طبيب شرعي أو وكيل تفليسة أو مراقب عقد صلح»، فإن النيابة العامة الاستئنافية تفرض على الشكاوى أحياناً طابعين من طوابع صندوق تعاضد القضاة من فئة المئة ألف، إضافة إلى الطوابع الأخرى.

انقر على الجدول لتكبيره

لكن رغم أن الرسوم لا تُقر ولا تُعدّل إلا بقانون، تداول ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي جدولاً يبيّن أتعاباً ورسوماً جديدة للكُتاب العدل تفوق تلك المحددة رسمياً. ولا ينفي بعض الكُتاب العدل استيفاءهم الأتعاب وفقاً لهذه الجداول، معلّلين ذلك بالأكلاف التشغيلية التي يتكبّدونها، كأجور العاملين، القرطاسية، اشتراك الكهرباء وبدلات الإيجار التي تُدفَع بالدولار النقدي. وإذا نظرنا إلى واقع الحال فإن غالبية العقود التي تُوقّع عند الكاتب العدل لا تكون بقيمتها الحقيقية والفعلية تهرّباً من دفع الرسم النسبي. وأغلب الكُتاب العدل يعرفون ذلك، ويعتبرون أنهم لو استوفوا الرسم على القيمة الحقيقية لكانت أعلى بكثير من تلك المذكورة في الجدول، كما أن أتعاب الكُتاب العدل منفصلة عن قيمة الرسوم القضائية المفروضة في القانون والتي لا يجوز أن تُعدّل إلا بقانون.

النقابة «تستأنس»
أصدرت نقابة المحامين في بيروت جدولاً يحدّد الحد الأدنى لأتعاب المحامين على سبيل الاستئناس لا الفرض، كما رفعت رسم تسجيل الوكالات إلى ستمئة ألف ليرة للدعاوى. أما الرسم السنوي لتسجيل وكالة الشركات فأصبح مليوناً وخمسمئة ألف ليرة لضمان الحد الأدنى من القدرة على الاستمرار، خصوصاً في ظل الاعتكاف القضائي الذي أدى بصورة غير مباشرة إلى إغلاق عدد كبير من مكاتب المحاماة.

.. والوزارة تعدّل
وزارة المالية عدّلت طريقة احتساب رسم الطابع النسبي على العقود والكتابات والرسم النسبي لكتابة العدل ونقابة المحامين على الأسناد والعروض الفعلية للمبالغ الواردة بالعملة الأجنبية، بعد تحديد القيمة بالليرة اللبنانية وفقاً لسعر صيرفة في اليوم السابق لنشوء الحق بالنسبة إلى العقود، أو المصادقة بالنسبة إلى الأسناد. فعلى سبيل المثال، إذا كان عقد بيع العقار بالدولار، يُحتسب رسم الطابع 4 في الألف ورسم نقابة المحامين واحداً في الألف ورسم كتابة العدل واحداً في الألف بعد تحويل قيمة العقد إلى الليرة اللبنانية على سعر صيرفة، فيما كان يُحتَسَب سابقاً على سعر 1507 ليرات للدولار.
إن رفع الرسوم القضائية سيحرم عدداً كبيراً من المواطنين من حق اللجوء إلى القضاء


ولا شك في أن هذه الآلية لاحتساب الرسوم ستضخّ مبالغَ جديدة في صندوق تعاضد القضاة أو صندوق نقابة المحامين أو الكُتاب العدل، إلا أنها تبقى غير كافية ولا تغني عن ضرورة إصدار قوانين تقضي بتعديل الرسوم لمنع الفوضى والتهرب من الرقابة وتوحيد استيفاء الأتعاب. كما لا شك في أن رفع الرسوم القضائية سيحرم عدداً كبيراً من المواطنين من حق اللجوء إلى القضاء، إذ إن الكلفة الأدنى لأي معاملة قضائية تعادل ضعف الحد الأدنى للأجور. فما بين ضرورة رفع الرسوم لإنصاف القضاة والكُتاب العدل والمحامين وما بين تمكين المواطنين المعدومين من الوصول إلى حقهم بالتقاضي الذي أضحى حكراً على الميسورين منهم، لا بد من إعادة النظر الفعلية في نظام الرواتب والأجور والنظام الضريبي اللبناني على حدّ سواء.