تشير المعطيات إلى أن «الفواتير الملغومة» ظاهرة منتشرة في لبنان، يتغنى بها البعض تحت شعار «الحربقة»، على رغم أنها تخفي في طياتها شكلاً من أشكال الاحتيال والكذب الذي قد يخجل صاحبه من الاعتراف به علانية.تارة تكون هذه الفواتير الملغومة مصدراً للقلق خوفاً من الملاحقة القانونية، وتارةً أخرى تكون باب رزق لكثيرين ممّن اعتادوا «تزبيط» أوضاعهم. وبين هذا وذاك، تتصدّر المشهد في لبنان فواتير من نوع آخر، هي تلك التي تكوي جيوب الناس عند صناديق السوبرماركات حيث تلتهب الأسعار، من دون حسيب أو رقيب، بسبب جشع بعض التجار وعدم التزامهم بتسعيرة صرف الدولار وعدم التزامهم بهامش الربح الذي نصّ عليه قانون حماية المستهلك.
وفي كل الحالات، تظهر «الفواتير الملغومة» في لبنان كوَجه من أوجه الفساد والهدر والاحتيال على رغم وجود القوانين والملاحقات التي تصدر بحق كل من يقوم بالتلاعب بالفواتير مهما اختلفت دوافعه ومبرراته.
«يعني معقول اليوم باخد دليفري من منطقة لمنطقة بدي ساعة حتى أوصل، بدفع بنزين للموتوسيك، وآخر شي طالع معه المحل إنه الدليفري 20 ألف ليرة والدولار فوق الأربعين ألف! إيه بس أوصل عند الزبون، بعطيه الطلبية وفاتورة المحل وفاتورة من عندي مكتوب عليها 100 ألف ليرة خدمة التوصيل، شو بتعمل الـ 100 ألف أصلاً؟ حق سندويشة ما بتكفي»، يقول عامل الدليفري محمد (35 سنة) عن تجربته مع الفواتير الإضافية. وهو ما يعتبره حسام «عادياً جداً. أنا بشتغل صرلي 25 سنة شوفير عند ناس، بعرف كل حاجاتهم، والناس بتكارمني، دايماً إلي أسعار خاصة بالمحلات، بيعرفوني موظف، بيحطولي سعر السوق، بستفيد شوي، عندي عيلة كيف بدي عيش بهيدا الوضع، أنجأ معاشي يكفيني أكل، وين المشكلة؟».
تجربة يحيى تختلف قليلاً، فهو وسيط بين خاله والمستأجر، برأيه: «الحياة بدها شطارة. طلب مني خالي لاقي مستأجر آدمي لبيته، وصار هيدا الشي، كل شهر بس يدفع المستأجر الأجار بعطيه وصل بالمبلغ وبرجع بعطي وصل تاني لخالي وبحط بالجيبة 50 دولار. شو المشكلة، عم يوصل الأجار لخدمته بلا وجع راس».
يتشارك بلال مع يحيى في الاستفادة، من خلال تسهيل الحصول على إفادات مدرسية لعدد من أولياء الأمور في المدرسة التي يعمل فيها كمحاسب، ويقول: «في كتير أهل صرلن كتير عنا بالمدرسة بيطلبوا نزيد الأقساط على الإفادات يلي بدّن يقدموها للدولة أو للمؤسسات لبيشتغلوا فيها حتى يطلعلن كامل المبلغ وشوي زيادة. عادة في أهل بيشوفوا خاطري لمّا يقبضوا المدارس، الناس بتستفيد وبتفيد».
يبدو أن هذا السلوك لا يقتصر على اللبنانيين فحسب، بل أصبح متّبعاً من قِبل العاملين الأجانب المقيمين فيه، إذ يرونه سلوكاً عادياً كما يقول عبد الرحمن، العامل في إحدى محطات الوقود في بيروت. فعندما يطلب أحدهم الفاتورة، يسارع سائلاً: «بقدّيه بدك الفاتورة؟»، وليس لديه أي مشكلة بوضع الرقم الذي يطلبه الزبون «تسهيلاً لأمور الناس».

احتيال وتزوير..
يؤكد المحامي سماح مهدي أن «تضمين الفاتورة مبالغ إضافية مخالفة للواقع، يُعد من قبيل المناورات الاحتيالية التي تستهدف الاستيلاء بصورة مخالفة للقانون على أموال الزبون، وبذلك تكون جريمة الاحتيال مكتملة الأركان، وتجب إدانة مرتكبيها عملاً بنص المادة 655 من قانون العقوبات اللبناني (كل من حمل الغير بالمناورات الاحتيالية على تسليمه مالاً منقولاً أو غير منقول أو أسناداً تتضمن تعهداً أو إبراء أو منفعة واستولى عليها، يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وبالغرامة من مئة ألف إلى مليون ليرة). ويعتبر مهدي أن «إصدار فاتورة مخالفة للواقع الصحيح من حالات التزوير المعنوي الذي يُعرف بأنه «تشويه مضمون المستند أي تشويه موضوعه وظروفه»، وهذا النوع من التزوير لا يُكتشف من خلال علامات أو آثار مادية ظاهرة، بل بما يتضمنه المستند من بيانات وتصريحات كاذبة، ويتحقق التزوير المعنوي بتغيير وجه الحقيقة، من دون أن يترك ذلك أثراً يدرك بالحس. وهو لا يقع إلا عند إنشاء المستند». ويوضح مهدي مفهوم التزوير بحسب المادة 453 من قانون العقوبات اللبناني حيث إنه «تحريف متعمد للحقيقة، في الواقع أو البيانات التي يثبتها صك أو مخطوط يشكل مستنداً، بدافع إحداث ضرر مادي أو معنوي أو اجتماعي»، مشيراً إلى وجود ركن مادي وركن معنوي للتزوير. ويضيف: «الركن المادي هو تحريف الحقيقة في واقع أو بيانات يثبتها صك أو مخطوط. أما بالنسبة للركن المعنوي، فيفترض توافر القصد العام أي العلم بأن ما يقوم به الفاعل هو جريمة معاقب عليها بموجب القانون، واتجاه إرادته لارتكاب الفعل المذكور. بالإضافة إلى القصد العام، يجب توافر الدافع لدى الفاعل، أي أن يستهدف الفاعل إحداث ضرر مادي أو معنوي أو اجتماعي». ويختم المحامي: «الضرر هو من العناصر الأساسية لاكتمال جريمة التزوير لا سيّما بالنسبة للمستندات الرسمية نظراً للثقة العامة المعلقة عليها، وتبقى هي الحال بالنسبة إلى المستندات العادية بحيث يكون الضرر للأفراد».

«حربقة»
ظاهرة الفواتير الملغومة «عمرها عشرات السنين في لبنان، وهي ظاهرة سيئة، وغير صحية في المجتمعات بمختلف المعايير الأخلاقية والاقتصادية. فاللبناني يشتغل بأسلوب الحربقة، ويعتبر الربح الذي يحققه من خلال زيادة الأرقام الوهمية على الفاتورة مكسباً وربحاً شرعياً له»، يقول الباحث الاقتصادي والمالي محمود جباعي، مشيراً إلى أن «عدداً من العاملين في القطاع العام يطلبون من إدارات المدارس تدوين أرقام أعلى للأقساط المدرسية على الفواتير بغية تحصيل أموال إضافية من الدولة». ويضيف: «سلوك اللبناني في ما خص الفواتير الملغومة هو نهج متّبع منذ سنوات من قِبل المستثمرين والمتعهدين في مشاريع الإنماء والإعمار وحتى في موضوع تأهيل الطرقات، كانت تُضخّم الأرقام بطريقة مضاعفة. فإذا كانت الطريق تُكلف 20 مليون دولار، تدفع الدولة 100 مليون دولار بسبب الفواتير الملغومة من قِبل السماسرة». ويعتبر جباعي أن «هذه الفواتير تجسّد أحد مظاهر الفساد والهدر في الدولة على صعيد الأفراد والمؤسسات العامة، وهي أحد الأسباب التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم»، محذراً من «خطورة أن يشرّع كل مواطن لنفسه القيام بفواتير ملغومة تحت وطأة الأوضاع الاقتصادية الصعبة».

التلاعب بالأسعار
أدت التقلبات السريعة لسعر صرف الدولار إلى فوضى عارمة في تسعير السلع وتوحيد أسعارها في مختلف المحال التجارية. هذا الواقع المستجد أتاح الفرصة أمام من يرغب باستغلال الوضع وإصدار فواتير ملغومة من الصعب اكتشافها، أو الالتفات إلى التلاعب فيها.
«عندي خمسة أولاد، بروح تَجيب أغراض من التعاونية حتى وفّر شوي، بيطلع الدولار بيطلع السعر معه، بينزل الدولار بتضل الأسعار عالية، والأنكى لمّا بيكون في سعر على العلبة، والأسعار على الفاتورة غير، وكأنن مش هني الأغراض يلي جبتن. جماعة نصّابين»، تطلق أم أحمد صرخة يتشارك معها عدد كبير من اللبنانيين الذين يعانون من الظروف الاقتصادية الصعبة، ومن تلاعب عدد من التجار بأسعار السلع من دون حسيب أو رقيب بحجة التبدل السريع في سعر صرف الدولار.
أدت التقلبات السريعة لسعر صرف الدولار إلى فوضى في تسعير السلع وأتاح ذلك إصدار فواتير ملغومة من الصعب اكتشافها


يتحدث المدير العام لوزارة الاقتصاد محمد أبو حيدر عن «مساعي الوزارة المستمرة لضبط التلاعب بالأسعار من قِبل المؤسسات التجارية والسوبرماركات»، مشيراً إلى أن «الوزارة تتدخل في ثلاث حالات، الأولى في حال عدم الإعلان عن الأسعار بالأصل وفقاً للمادة 5 من قانون حماية المستهلك. والثانية في حال تخطى الربح الهامش المسموح به بعد حساب كلفة السلعة وهامش الربح، والحالة الثالثة عندما يكون السعر على الرفوف مغايراً للسعر على الصندوق». ويشير أبو حيدر إلى وجود «22000 نقطة بيع في مختلف المناطق اللبنانية، فيما يبلغ عدد مراقبي الوزارة 50 مراقباً فقط»، مشدداً على «ضرورة أن تواكب السلطات المحلية، البلديات، عمل وزارة الاقتصاد وتقوم بواجباتها وتراقب أكثر نقاط البيع، استناداً إلى مهامها التي أنيطت بها سواء من خلال قانون البلديات أو من خلال قانون حماية المستهلك».
ويتابع: «تُسطّر وزارة الاقتصاد المحاضر وتحيلها إلى القضاء المختص، كما تواكب الوزارة القوى الأمنية سواء الأمن العام أو أمن الدولة خلال عملية مراقبة الأسعار، وتعمل القوى الأمنية على أخذ إشارة من القضاء المختص، في بعض الأحيان يعطي القضاء إشارة بالإقفال بحسب نوع المخالفة الموجودة».



كيف بدنا نحاسب وما في قضاء؟
ينتقد رئيس بلدية الغبيري معن خليل الواقع الذي يحكم عمل البلديات في هذه الفترة، بخاصة مع اعتكاف القضاة، فلا قضاء ولا محاسبة، إذاً كيف يمكن للبلديات أن تقوم بدورها في حماية المواطنين من التلاعب بالفواتير والأسعار، والمحاضر التي تسطّر بحق المخالفين تحتاج سنة للبت فيها، فكيف الحال اليوم والبلد معطل.


ويضيف: «نعمل في البلديات على مراقبة التلاعب بالأسعار من خلال إقفال مؤقت، على أن تعمل خلال فترة الإقفال المؤسسات التجارية على تصحيح الأسعار. صحيح أن الأسعار تحتاج إلى وقت لتغييرها على المنتج، ولا تحتاج إلى أكثر من ساعة لتعديلها على الكمبيوتر، لكن المشكلة في وجود ذهنية استغلال المواطنين وتحقيق الأرباح من جيوبهم. للأسف حجم الغرامات أقل بكثير من أي تلاعب بالأسعار».
ويتابع: «تعمل البلديات على إحالة المحاضر إلى وزارة الاقتصاد، فهل تبتّ الوزارة في تلك الإحالات التي من المفترض أن تصل إلى القضاء. على مدى ست سنوات، لم نتبلغ بأي إجراء كبلدية من قبل وزارة الاقتصاد، ولم تصلنا نتيجة أي محضر تم تسطيره سواء من قبل البلدية، أو من قبل الوزارة في النطاق البلدي لبلدية الغبيري. المطلوب أن تكون هناك شفافية من قِبل الوزارة من خلال إظهار عدد الإحالات إليها وما هو مصيرها في القضاء».
ويختم: «بالنسبة للمواطن، أصبح المحضر أقل طوشة، بِيقلك إعمل محضر وأنا بتابعه بالقضاء، بيروح بيعالجه بالقضاء وبينعمل تخفيض عادة».