قد لا تحتاج الدول الغربية إلى إرسال قضاة ومحققين إلى لبنان لفرض استعمار قضائي. إذ إن بعض اللبنانيين مستعدون للقيام بهذه المهمة. فبعض المسؤولين اللبنانيين يعملون لخدمة سفارات أجنبية تدفع لهم بالعملة الصعبة بينما تراجعت قيمة رواتبهم وارتفعت أسعار السلع وكلفة المعيشة. لكن من قال (سوى المعجبين بالرجل الأبيض بشكل أعمى) أن القاضي الأوروبي، هو الآخر، محصّن من تلقّي الرشوة؟ فالقضية التي أتى الأجانب للتحقيق في شأنها تتعلق بملايين الدولارات، والأشخاص المشتبه بهم قد لا يترددون في عرض مبالغ طائلة لحماية أنفسهم. لا يمكن القول أن القاضي أو المحقق نزيه بمجرد تحديد جنسيته. ولا شك أن القضاة والمحققين الأجانب الذين يتولون ملفات خارج بلادهم لا يخضعون لرقابة صارمة، خصوصاً عندما تنتشر الفوضى ويتم تجاوز الأصول وتسلسل الإجراءات في تلك الدول. في قصر عدل بيروت، احتدم أخيراً الخلاف بين قضاة لبنانيين في شأن سبل التعاون مع القضاء الأجنبي، بينما الاتفاقيات الدولية التي تعهّد لبنان احترامها تُحدد تلك السبل بشكل دقيق ومفصّل. وبدا وكأن بعض القضاة يسعون لحماية مشتبه بهم من خلال عدم الاستجابة لطلبات المحققين الأجانب والتي أتت في إطار الاتفاقيات الدولية.
لا شك أن لنظام المحاصصة في التشكيلات القضائية أثراً على سلوك القضاة. ورغم تكرار النفي وتبرّؤ بعض القضاة من أي ولاء طائفي أو فئوي أو سياسي، تكثر المؤشرات التي تدل إلى عكس ذلك. حتى لو سلّمنا بأن هؤلاء القضاة لا ينصاعون لتوجيهات ورغبات السياسيين وزعماء الطوائف والمصرفيين، لكن يبدو أن دوافع تصرفات بعضهم تتعلق بتأمين مصالحهم الشخصية. ولا يمكن القول أن القاضي الذي يعمل لخدمة مصالحه الشخصية أقل سوءاً من القاضي الذي يعمل لخدمة سياسيين أو مصرفيين أو رجال دين. القاضي الفاسد قد يجمع الاثنين معاً فيخدم مصلحته من خلال تقديم الخدمات للآخرين. والقاضي الفاسد قد لا يكون طائفياً أو مؤيداً لطرف على حساب طرف آخر بل هو مستعد لخدمة أي طرف مقابل مكاسب شخصية.
القاضي الفاسد قد لا يكون طائفياً أو مؤيداً لطرف على حساب طرف آخر بل هو مستعد لخدمة أي طرف مقابل مكاسب شخصية


لا فرق بين قاض أجنبي وقاض محلي إلا في:
• عمله القضائي لتحقيق العدالة لا لخدمة المصالح بما في ذلك مصلحة بلد او فئة أو خدمة مصلحته الشخصية.
• كفاءته واختصاصه القضائي.
• مدى التزامه أصول الإجراءات وتسلسلها (Due process).
• جدية عمله.
• التصميم على التوصل إلى علاج فعال (effective remedy) للقضية القضائية.
أذكر أنه لدى تأسيس المحكمة الخاصة بلبنان عام 2007 ووضع نظامها الأساسي، أُثير موضوع جنسيات القضاة واتفق على ضرورة أن يكون عدد منهم من الجنسية اللبنانية. لكنهم حسموا بأن على رئيس المحكمة أن يكون أجنبياً وكأنهم أقروا باستحالة وجود قاض لبناني نزيه يتمتع بكفاءة عالية ويتميّز باستقلاليته، وفي ذلك مجافاة للحقيقة. أشرت يومها في «الأخبار»، في معرض قراءة نقدية لنظام المحكمة، أن هذا النقاش يغلب عليه الطابع السياسي ولا علاقة له بتحقيق العدالة، فليكن جميع القضاة أجانب طالما يحترم كل منهم الأصول ويتمتع بالكفاءة ويبتعد عن السياسة والسعي لتأمين مصالحه الشخصية أو الفئوية أو الوطنية.
وكما في العام 2007، نعتقد اليوم أن لا أهمية لجنسية القضاة والمحققين الذين يعملون في ملف الجرائم المالية والمصرفية أو في ملف انفجار المرفأ. بل يفترض أن يكون المرجع الأساسي لهؤلاء القضاة والمحققين هو الأخلاق والالتزام بالقانون والأصول والابتعاد كل البعد عن الانحياز والأحكام المسبقة والفساد والتوظيف العاطفي.