القاضي فيصل مكي
الاستقلالية هي جوهر القضاء وحصنه المنيع، وضمانة الضمانات ليكون ويبقى سلطة فعلية حقيقية. ومهما كانت الضمانات والحقوق والامتيازات الممنوحة للقضاة كبيرة، إلا أنها تبقى غير كافية للوصول إلى قضاء مكتمل الدور، طالما لا يتمتع القضاء والقضاة باستقلالية كاملة وناجزة ومحرّرة من أي ارتباط تَبَعي بالسلطة التنفيذية، وبعيدة عن الحدود التي دأبت وما زالت تلك الأخيرة على رسمها للعمل القضائي.
انطلاقاً من ذلك، الاستقلالية للقضاء كالروح للجسد. فكلما ارتفع منسوب الاستقلالية كان القضاء أكثر حيوية، وكلما كان القانون يسمح بتدخّل السلطة التنفيذية في القضاء انخفض مستوى الاستقلالية، وانخفضت معه فاعلية القضاء وتقلّص دوره.
استقلالية السلطة القضائية ليست امتيازاً للقاضي ولا ترفاً يفتخر به أو نيشاناً يعلّقه على صدره، إنما هي ركيزة دستورية جوهرية لقيام الدولة وانتظام عملها. وهي حق لكل مواطن بأن يكون لديه قضاء مستقل عن السلطتين الأخريين، قادر على التصدّي لكل الملفات، فاعل في شتى المجالات، قوي على المستقوي والمستبد، رحوم مع الضعيف، منتصر للمظلوم، مقتدر بذاته دون منّة من أحد، مُنزّه عن الشوائب، حاسم من دون أي مساومات، مُطَمئِن للجميع، ضامن للمساواة من دون انحياز لأحد.. وكل ذلك يوجب على السلطة السياسية أن تقرّ بالاستقلالية أولاً، ثمّ تكرّسها قانوناً ونهجاً وممارسةً.

(أنجل بوليغان ــ المكسيك)

من جهة أخرى، يكون واهماً من يظن أن السلطة ستمنح القضاة استقلاليتهم الكاملة بشكل تلقائي وسلس. فما من صدام حصل بين السلطتين التنفيذية والقضائية إلا وكان سببه -الظاهر أو الخفي- الاستقلالية. وعليه، هذه الاستقلالية لن تتحقق بالانتظار وبالرهان على حسن نيّة من لا يريدها أصلاً، بل من خلال نضال طويل بشتى الوسائل المشروعة.
من هنا كانت نشأة نادي قضاة لبنان الذي يهدف أساساً إلى المشاركة في هذا المسار النضالي للوصول إلى استقلالية فعلية وكاملة للقضاء، ومواجهة كل ما من شأنه تقويضها واستثارة الوعي على أهميتها، وذلك بالتعاون الوثيق مع قضاة من خارج النادي.
فبعدما كان النادي حلماً يدغدغ مخيلة القضاة، استحال واقعاً جميلاً بعد طول معاناة، وترسّخ فعلاً بعد طول أناة، وأزهر ضميراً راسخاً بعد جملة عقبات. فالاستقلالية هي حلم أكثرية القضاة المتشوّقين لممارسة دورهم على أكمل وجه، التوّاقين إلى وجود منظومة قانونية تحميهم من أي تعسّف أو طغيان، المنتظرين لإنصافهم ومعاملتهم بصورة متساوية مع زملائهم من دون أي محاباة أو انتقام، الآملين في تحديد معايير موضوعية للتقييم والتشكيل والتعيين.
لكن شتّان بين الأحلام والأوهام، فكما قيل سابقاً: «ثمرة العقول لا تجتني إلا بإطلاقها من قيود الأوهام. قيد الأغلال أهون من قيد العقول بالأوهام». وكما أشرنا سابقاً، لا يتوهمن أحد أن الاستقلالية قابلة للتحقّق بالأمنيات والشعارات، إنما تتطلب جهداً فاعلاً وعزيمة قوية وعملاً دؤوباً ومطالبة جادة وتعاوناً شاملاً ومؤازرة شعبية، فكما الحرية تؤخذ ولا تُعطى، كذلك الاستقلالية..
وانتزاع هذه الاستقلالية لا يتحقق إلا في ظل وجود وعي جماعي مدرك لأهميتها، وعبثاً ينجح أي نضال في فرض التغيير وتحقيق الاستقلالية المنشودة ما لم يؤازَر القضاء برأي عام متضامن، واعٍ لحقه ومصلحته في قضاء عادل ومستقل، ولواجبه في تحقيق هكذا قضاء والدفاع عنه. ومن هنا يأتي دور النادي أيضاً في المساهمة في خلق هكذا وعي وفي تعزيزه.
إن لم نصل إلى الاستقلالية الكاملة للسلطة القضائية فعبثاً قيام الدولة


فالوعي هو المفتاح لاستعادة الدولة، ولا استعادة للدولة من دون سلطة قضائية مستقلة. هم يراهنون على تشتيت الانتباه بعيداً عن الوعي، ولكن قوة الجمهور، عندما تتسلّح بالمعرفة، ستُجبر في النهاية على فرض المأمول والمُراد.
ولذلك، لن تؤتي معركة الحصول على استقلالية السلطة القضائية أكلها من دون اقتناع الجميع بوجوب التضافر. إذ أن المتضررين من الاستقلالية سيعتمدون كل الوسائل -وما أكثرها- لتوهين الإرادة والمماطلة وتقليص حجم التغيير المطلوب والخروج بنظريات يُراد بها باطل.
وعلى هذا، يقتضي التيقّظ إلى أن منح الاستقلالية الجزئية يوازي عدم الاستقلالية، فلا قضاء فاعل من دون استقلالية تامة، ما يستوجب التدقيق في مضمون ما هو مقترح ومدى انسجامه مع معايير الاستقلالية وعدم الانتشاء بالعناوين البراقة. فالخشية هي في إقرار قانون فارغ المضمون.
وأهم ما هو مطلوب في القانون، وضع قواعد صارمة وصمّامات أمان تحول دون التسييس والتطييف والتعطيل والتفخيخ والتمييع.
وكما كان نادي قضاة لبنان حلماً وردياً تجسّد واقعاً بإرادة مؤسسيه وأعضائه الذين آمنوا بالفكرة وسعوا إلى تكريسها رغم كل الصعاب والعقبات.. كذلك الاستقلالية، طالما أن الإيمان بها قائم، لا بد أن تتحقق بعد إزالة العقبات وتجاوز الصعاب. وإلا.. إن لم نصل إلى الاستقلالية الكاملة للسلطة القضائية، فعبثاً قيام الدولة، وليُقرع لحن الموت على قارعة وطن قيد الانتظار.

* رئيس نادي قضاة لبنان