حدّد قانونا أصول المحاكمات المدنية وأصول المحاكمات الجزائية قواعد خاصة لردّ القضاة وتنحيتهم. وسبق أن نشرت القوس مقالاً حول «تنحية القضاة والارتياب المشروع» (عدد 15 كانون الثاني 2022).يبيّن بوضوح أن نصوص القانون اللبناني تضمّنت أصولاً في هذا الشأن، وأن القاضي ليس إدارة أو مؤسسة خاصة تتصرف وفق ما تقتضيه أرباحها، بل وفق معايير العدالة. إذ اعتبرت محكمة التمييز اللبنانية أن «ما يخرج القاضي عن حياده هو تلك التصرفات أو المواقف التي تصدر عنه، والتي تشكّل من حيث طبيعتها وأهميتها وخطورتها ما يوحي بأنه اتخذ موقفاً منحازاً تجاه أحد المتقاضين، مجرّداً نفسه من صفة الحكم ومن النزاهة والعدالة الملازمتين لقضائه». ولا يمكن التسليم جدلاً بأن أي قاضٍ يملك العدالة، إلا إذا كان ملتزماً بأصول المحاكمات المدنية والجزائية.
ما هو القانون الذي يستند إليه أي قاضي تحقيق أو مدّع عام للقول بعدم جواز تنحيته، فيما تنصّ المادة 52 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، بوضوح، على أنه تطبّق على قضاة التحقيق أحكام طلب التنحي والردّ والقواعد الواردة في هذا الشأن في قانون أصول المحاكمات المدنية، كما تنصّ المادة 128 على أصول تنحي قضاة النيابة العامة وتطبق عليهم أحكام التنحّي والردّ، وتنظر في طلب رد عضو النيابة العامة المحكمة التي يكون تابعاً لها حسب التنظيم القضائي. بل أن المادة 129 تناولت حالة تعذّر تأليف هيئة المحكمة، بحيث إذا أدى طلب الرد أو طلبات الرد المتعددة إلى تعذر تأليف هيئة المحكمة، طُبّقت أحكام نقل الدعوى.
كما تنصّ المادة 363 من قانون أصول المحاكمات الجزائية على أن المحقق العدلي يطبّق الأصول المتبعة أمام قاضي التحقيق العادي. ولا يُقصد بذلك الإجراءات التي ترعى أعمال التحقيق وإصدار القرارات فقط، بل كل الأحكام التي ترعى عمل قاضي التحقيق العادي، ومن ذلك إمكانية طلب ردّه أو تنحيه، وطلب نقل الدعوى من تحت يده للارتياب المشروع.
فالقانون أوجد لكل معضلة حلاً، ولكن لا يمكن لأي قانون أن يوجِد حلاً لأي رغبة باستغلال القضاء وتسييسه. وهنا بيت القصيد. فالقوانين تُوضع لكي تطبق ولتحقّق العدالة، لا لتلبية مصالح شخصية أو فئوية أو آنية.
لا يمكن لأي قانون أن يوجِد حلاً لأي رغبة باستغلال القضاء وتسييسه


والقول إن القاضي العدلي بمنأى عن الردّ والتنحي يماثل القول برفض مواطن الخضوع للقضاء. كما أن القضاء اللبناني يزخر باجتهادات تتناول تنحّي القضاة وردّهم، ومنها اعتبار هيئة محكمة التمييز الجزائية في القرار رقم 189 (6/9/2007) أن تطبيق مبدأ نقل الدعوى للارتياب المشروع، هو من المبادئ العامة في أصول المحاكمات المدنية والجزائية التي تطبّق على كل المراجع القضائية عادية كانت أو استثنائية. واستند القرار إلى أن المادة 340 من قانون اصول المحاكمات الجزائية أكدت هذا المبدأ. إذ جاءت مطلقة، ولم تفرّق بالنسبة لنقل الدعوى بين مرجع قضائي عادي أو استثنائي. والنص المطلق يطبق على إطلاقه، إذ إنّ الحد الوحيد لهذه القاعدة يتوافر في حالة تعذر وجود مرجع قضائي أو تعذر إمكانية تأليفه للفصل في الدعوى، فيصطدم نقل الدعوى عندها بمبدأ أساسي آخر هو الحيلولة دون الاستنكاف عن إحقاق الحق مما يرتدّ على حسن سير العدالة.
في حين أن طلب نقل الدعوى من محقق عدلي إلى محقق عدلي آخر يبقى جائزاً طالما أن تعيين المحقق العدلي البديل ممكن وفقاً للآلية المنصوص عليها في المادة 360 من قانون أصول المحاكمات الجزائية القضائية، عادية كانت أو استثنائية.



خروج القاضي عن طوره
من الأحكام ما يتناول «خروج القاضي عن طوره». فقد نصّ القرار رقم 16 الصادر في 12/2/2009 على «وجوب تنحي القاضي تلقائياً عن نظر القضية متى بدا من تصرفه عداوة تثير الريبة في قدرته على الحكم فيها بغير ميل وذلك عند الخروج عن طوره والانسياق إلى جدال عنيف مع بعض المتقاضين».
في العام 1985 تم تعديل بعض أحكام قانون القضاء العدلي ولا سيّما المادة 11 منه ليلتزم أعضاء المجلس بالمحافظة على السرية ويعتبر إفشاء سر المداولة لدى المجلس بمثابة إفشاء لسر المذاكرة لدى المحاكم، وذلك بهدف سمو ورفعة هذا المجلس وليكون مثالاً يُحتذى به بالالتزام بالقانون. اليوم على مجلس القضاء الأعلى المنصوص عنه في قانون القضاء العدلي أن يتولى مهمة جمع شتات القضاء اللبناني والمبادرة إلى تصويب الأمور وصون ما تبقى من استقلالية هذا القضاء، لا سيّما أن المادة الرابعة من قانون القضاء العدلي تنصّ على أن مجلس القضاء الأعلى يسهر على حسن سير القضاء وعلى كرامته واستقلاله وحسن سير العمل في المحاكم ويتخذ القرارات اللازمة بهذا الشأن ، لذلك يأمل اللبنانيون من مجلس القضاء الأعلى أن يسهر، فهلّا سهر؟ حبذا لو يسهر!