الخروج من المأزق قد يستدعي أولاً التوقف عن التجريح وإطلاق الكلام العالي النبرة والتشهير، أياً كان مطلقه وأياً كان المستهدف منه. ولا شك أن غضب ذوي ضحايا انفجار 4 آب 2020 وغضب المودعين في المصارف من تعطل وتباطؤ إجراءات التحقيق والمحاكمة مبرّر، غير أن التعبير عن الغضب لا يكفي للخروج من المأزق. وقد تبيّن خلال الأسبوع الفائت أن التحركات في الشارع كانت خجولة وأن أعداد المشاركين في الاعتصامات والتظاهرات الاحتجاجية لم تكن بحجم التوقعات. وبالتالي قد يكون تأثير ضغط الشارع على مجريات الأمور محدوداً. الخروج من المأزق يستدعي تخفيف حدة التوتر من قِبل مناصري المحقق العدلي المكفوفة يده من جهة، ومؤيدي المدعي العام المتنحي عن النظر في ملف انفجار 4 آب من جهة أخرى. ولا بد أن يسهر مجلس القضاء الأعلى ورئيسه على "حسن سير القضاء وعلى كرامته واستقلاله وحسن سير العمل في المحاكم ويتخذ القرارات اللازمة بهذا الشأن" (قانون القضاء العدلي، المادة 4).
لكن وبكل أسف، الأمور ليست بهذه البساطة، لأن موقف أعضاء مجلس القضاء الأعلى بشأن المحقق العدلي القاضي طارق البيطار ليس موحداً. وقد حاول بعض أعضاء المجلس البحث عن مخارج للأزمة المتعلقة بالانقسام السائد في لبنان بشأن شخص المحقق العدلي في قضية انفجار 4 آب، لكنهم جوبهوا بحجج قانونية تبرّر التمسّك به حتى لو أدى ذلك إلى تفاقم الانقسام ورفع مستوى التوتر. وبدا التمسّك بالقاضي البيطار وتقديم الحجج القانونية والمطالعات الفقهية التي تدافع عن حسمه بأنه لا يحق لأي سلطة أن تردّه، أولى من التحقيق في انفجار 4 آب وأهمّ من الحفاظ على تماسك الجسم القضائي.
الخروج من المأزق يستدعي حكمة رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود، ونضوجه الوطني وحرصه على تحقيق العدالة، وليس مجرّد المطالبة بها أو رفعها شعاراً. فهل يجوز أن يردّ المحقق العدلي على قرارات المدعي العام لدى محكمة التمييز من خلال تلفزيون "الجزيرة" كما حصل أول من أمس؟ هل يجوز أن يوحي المحقق العدلي أنه مع طرف سياسي وضد طرف سياسي آخر؟ وهل يصدّق أحد أن تزامن قرار القاضي البيطار العودة إلى التحقيق وتخطي كل الإجراءات القانونية التي تكف يده لحين البت في طلبات ردّه، بعد اجتماعاته المطوّلة مع وفد أجنبي هي مجرّد صدفة؟ كيف ذلك بينما كان قد التزم الصمت لأشهر طويلة رضخ خلالها للإجراءات القانونية المعتمدة؟ فما الذي جعله ينتفض فجأة ساعات قليلة بعد اجتماعه بالوفد القضائي الفرنسي؟
المسلسل الصدامي الذي شاهدنا بعض فصوله خلال الأيام الأخيرة والشرخ بين الناس يشكل البيئة الحاضنة للإفلات من العقاب


هل يجوز أن ترفع مجموعات من اللبنانيين صور قاض في المظاهرات وتستخدمها تهديداً ووعيداً بوجه مجموعات أخرى من اللبنانيين؟ وهل يجوز التشهير به وبالمدعي العام وبغيرهما من القضاة كما يحصل اليوم في الشارع وفي وسائل الاعلام؟ ألا يعتقد القاضي عبود أن التوافق في مجلس القضاء الأعلى وفي الهيئة العامة لمحكمة التمييز (التي يترأسها) يساهم في الحفاظ على القضاء ويساعد على إعادة مسار التحقيق في جريمة 4 آب إلى سياقه الصحيح؟
وفي ظل الأجواء المتوترة التي تتحكم بالقضاء اليوم هل يتوهّم أحد في قصر العدل أن القرار الاتهامي الذي قد يصدره القاضي بيطار سيحال إلى المجلس العدلي من دون أي مشكلة، أم أنه سيتحول إلى مادة لتسعير الخلافات والصراعات بين الناس واستكمال تخريب ما تبقى من مؤسسات الدولة؟
الخروج من المأزق يعني التركيز على الوصول فعلياً إلى تحقيق العدالة في جريمة انفجار 4 آب ومنع الإفلات من العقاب. هذا تحد أمام الجميع ولا يفترض أن يستخدم كشعار يرفعه بعض اللبنانيين بوجه البعض الآخر من اللبنانيين لأن ذلك يفقده قيمته ومكانته الحقيقية.
العدالة ليست ملكاً لأحد بل هي حق لكل الناس والأساس لتنظيم المجتمع. كل المجتمع. أما المسلسل الصدامي الذي شاهدنا بعض فصوله خلال الأيام الأخيرة والشرخ الذي يتوسع بين الناس فيشكل عملياً البيئة الحاضنة للإفلات من العقاب. لماذا؟ لأن النظام اللبناني هو بكل بساطة نظام توافقي تتحكم به موازين القوى، ولا مجال فيه لاستقلالية السلطة القضائية. فهل يستغل القضاة الهامش الضيّق المتاح لهم لإثبات استقلاليتهم ونزاهتهم أم يلتحقون بحلبة الصراعات بين القوى السياسية والطائفية في لبنان؟