عاش قضاة لبنان كما كل اللبنانيين 48 ساعة الماضية حالة من الصدمة حيال المستجدات على الساحة القضائية، لا سيّما مع الكباش المحتدم بين مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات والمحقق العدلي طارق البيطار. سادت الدهشة على وجوه القضاة وهم يتابعون ما جرى أمام قصر العدل في بيروت يوم الخميس. هذه المشهدية جعلتهم يستشعرون الخوف الحقيقي على القضاء الذي بات الضحية الأكبر اليوم بسبب التجاذب السياسي والتدخل في عمله على أكثر من صعيد، فجائت مشهدية العدلية.. خدمة للنظام لا للعدالة (راجع "الأخبار"، عدد الأمس).الاجتماع المرتقب لمجلس القضاء الأعلى "لن يكون قريباً وربما لن يعقد" بحسب أوساط قصر العدل، "لأن حال المجلس كما حال البلد منقسم على ذاته"، وقد ساعدت التظاهرات التي سبقت موعد انعقاده على إعطائه عذر شرعي لتبرير تأجيل إنعقاده بحجة "عدم الاجتماع تحت ضغط الشارع".

(هيثم الموسوي)

لدى سؤال بعض القضاة عن رأيهم بما حصل يسود الصمت لبرهة في محاولة لإخفاء توجههم، ويستدرك بعضهم موقعهم كقضاة يحكمهم بالقانون ويعملون تحت سقفه. "لا مانع من الحديث عما يجري ولكن بشرط عدم ذكر الأسماء" قال معظم من خابرناهم من القضاة. هم لا يرغبون بزج أنفسهم في الكباش الحاصل بين عويدات والبيطار ويفضلون النأي بأنفسهم عن معارك "لا يُعرف مداها أو حدودها حتى اليوم".
يظهر القضاة تخوفاً غير مسبوق على العدالة في لبنان، فما جرى بالأمس من دخول المتظاهرين إلى قصر العدل هو بمثابة الخط الأحمر الذي لم يمنع تجاوزه. أما المشهد الذي هزّ القضاة فهو دخول السلطة التشريعية على خط المواجهة، إذ قال أحد القضاة: "عادة تضغط السلطة التنفيذية ومعها السلطة السياسية على القضاء، أما اليوم فدخلت السلطة التشريعية على الخط، وأصبح النواب يتحركون دون أدنى احترام لمكانة القاضي وما يمثل". وأضاف آخر أن "مشهد القاضي إيلي حلو يختصر وضع القضاء اليوم. وقف النائب وضاح الصادق صارخاً في وجهه رغم أنه كان يحاول تهدئة الأوضاع، هذا الاعتداء يشكل صفعة جديدة في وجه القضاء ووجهاً جديداً من أشكال تدخل السلطة التشريعية في عمل السلطة القضائية".
"كان بالإمكان تفادي مشهد انهيار العدلية من خلال تدخل تشريعي لترميم بعض النصوص القانونية التي تحتمل تفسيرات وتأويلات، مثل طلبات الرد التي تتحول من حق دفاع مقدس إلى تعسف في استعمال الحق وتؤدي إلى تعطيل التحقيق" قال أحد قضاة محكمة الجنايات. وأضاف زميله القاضي المنفرد الجزائي أن "كل المؤشرات كانت تدلل إلى أننا ذاهبون إلى مشكل حقيقي في البلد، وهذا ما حصل، المشكلة أن القضاء بات الضحية اليوم، وهيبة القضاء باتت على المحك، هناك تخوّف حقيقي لدينا كقضاة على وجود السلطة القضائية وأن لا تتحول إلى أداة تنفيذية لما يطلبه الوزراء والنواب في لبنان فضلاً عن تنفيذ رغبات وإرادة عدد من الدول الخارجية".
يكرر عدد من القضاة أن الكرة اليوم باتت في ملعب مجلس القضاء الأعلى الذي "كان يستطيع التدخل في مواضع كثيرة على مدى سنتين منذ انفجار المرفأ، وكان قادراً على وضع معايير حاسمة وسريعة وفاعلة للنظر بطلبات الرد لناحية اكتمال الخصومات والتبليغات وغيره". ويضيف بعضهم: "مشكلتنا في لبنان أنه لا يوجد قانون يكرّس استقلالية القضاء بعيداً عن التدخلات السياسية في عمله، لو كان هذا القانون موجوداً لما تجرأ أحد من السياسيين والنواب على التدخل بهذا الشكل بعمل القضاء اللبناني، والمشكلة اليوم أنه يعمل على قانون استقلالية القضاء ولكنه يوجد محاولات لتفريغه من مضمونه، بحيث يقرّ من الناحية الشكلية فقط". وحول سيناريو الحل المرتقب كمخرج للأزمة الحالية ترى إحدى القاضيات أنه " من الصعب تصور المشهد القادم للقضاء بعد ما شاهدناه من اقتحام لقصر العدل وتهجّم على أحد القضاة، ومجلس القضاء الأعلى عاجزٌ عن الاجتماع تحت وطأة خلافاته". ولا بد من "التوقف عن التخاطب الإعلامي من خلال القرارات والمذكرات بين أهل البيت الواحد، فالبلد لم يعد يحتمل مزيداً من تأجيج الوضع، والناس تلتهب من ارتفاع أسعار صرف الدولار التي حلّقت مع ارتفاع وتيرة الخلافات القضائية".
تختصر إحدى القاضيات ما يجري على الساحة القضائية معبرة عن تشاؤمها: "يلي صار هو دمار للعدلية ولا أتخيل أن يكون هناك قيامة للقضاء من بعدها، وإذا ما في قضاء ما في وطن".

انهيار القضاء يعني ضياع البلد
لا يختلف المحامون في مواقفهم عن القضاة حيال ما يجري على الساحة القضائية. منهم من يرى أن ما قام به مدعي عام التمييز يصب في حماية القضاء من "القرارات غير القانونية للقاضي البيطار". وآخرون يجدون في قرارات البيطار "سبيلاً لإحقاق الحق وتحقيق العدالة" في ملف انفجار المرفأ. وبعيداً عن موقف "نقابة المحامين.. نقابة تدعم البيطار ضدّ عويدات.. وتلوّح بالتدويل" (راجع "الأخبار"، عدد الأمس)، يقف المحامون ولو ضمنياً بين مؤيد ومعارض لكل من عويدات والبيطار.
كان بالإمكان تفادي مشهد انهيار العدلية من خلال تدخل تشريعي لترميم بعض النصوص القانونية التي تحتمل تفسيرات وتأويلات


"خوفنا اليوم مش خوف على قضية، الخوف هو على القضاء يلي هو السبيل لإحقاق الحق بين الناس، كيف ممكن يضل في بلد إذا انهار القضاء"، يقول محام وهو يتلمّس مخاوف حقيقية تطال القضاء، ويضيف: "كل الناس والعالم أجمع يتابع اليوم ما يجري، صعب نلاقي الجهة التي من المفترض أن تبت وتحكم وهي بحاجة لِمن يفصل بقراراتها. الموضوع أبعد من كباش سياسي بين القضاة عويدات والبيطار، هي أشبه بمحاولة حقيقية لطعن الجسم القضائي وتشويه صورته". يتشارك محامي آخر مع زميله المخاوف ولكنه يعتبر أن المشكلة الحقيقية ليس في القضاة بل بالأجهزة القضائية برمتها التي تعمل "بتوجهات السلطة السياسية، التي لم تعد تخجل بالحديث عن تحكمها بالسلطة القضائية، والأبشع يلي شفناه من تهجم للنواب على القضاة، هيدا الشي عيب كتير ومش مقبول".

التحقيق الدولي هو الحل؟
تؤكد أوساط قضائية أن ظروف البلد برمتها لا تساعد في اجتراح حلول في هذه اللحظة بالذات. فلا رئيس للجهورية يسهر على تطبيق الدستور، والحكومة الحالية هي حكومة تصريف أعمال وهي مكبّلة الصلاحيات وتسعى إلى تدوير الزوايا، والسلطة القضائية تتعرض لأشرس حملة في تاريخها من خلال توهين القضاء وتكبيل صلاحياته منعاً لتحقيق العدالة. أما السيناريو الأسوأ الذي بات أكثر واقعية اليوم يؤكد أن أول ضحايا الاشتباك الحاصل هو القضاء اللبناني برمته. ولا يوجد إمكانية للسير بملف التحقيقات في انفجار الملف بسبب التشابك الحاصل بين عويدات وبيطار، وفكرة الاستعانة بتحقيق دولي التي كانت مطروحة سابقاً لم تعد قابلة للتطبيق بفعل عوامل متعددة ومرور أكثر من سنتين على وقوع الانفجار، وعدم رغبة الدول الغربية في تكرار تجربة لجنة التحقيق الدولية والمحكمة الخاصة بلبنان بكلفتها الباهظة وخلاصة عملها التي أقل ما يقال فيها أنها لم تكن على قدر توقعات مموليها.