تعيش نقابة المهندسين أشدّ أيامها سواداً. الأحلام الورديّة التي رُسمَت مع وصول عارف ياسين إلى منصب النقيب، سُرعان ما تبدّدت. النقابة الأكبر لجهة عدد المنتسبين إليها (أكثر من 60 ألف مهندس) والتي تملك أكبر كتلة نقديّة محتجزة في المصارف (نحو مليار دولار)، تواجه عجزاً ضخماً في موازنتها، فيما كان يُفترض أن تحقّق فائضاً مع انتهاء عام 2022. والسبب، بحسب نقابيين، «ليس الأزمة الاقتصاديّة التي عصفت بصناديق النقابة، بل سوء الإدارة والتخطيط، ما أدى إلى نتائج كارثيّة»، إذ إنّ موازنة عام 2022 احتسبت الدولار بقيمته الحقيقية على عكس موازنتي 2020 و2021 اللتين اعتمدتا «اللولار» وأنتجتا عجزاً في ميزان المدفوعات. لذلك، كان متوقعاً أن تستعيد النقابة عزّها وتسجّل فائضاً مع استيفاء الاشتراكات (100 دولار لكل مهندس) وفرق التأمين (270 دولاراً) والرسوم ابتداءً من أيلول (رسوم بناء، رسوم تسجيل...) بالدولار الفريش.هذا العجز سيزيد الأمور سوءاً، إذ سيتم تعويضه، على الأغلب، من جيوب المهندسين عبر زيادة رسوم الاشتراك (قد تتعدّى 200 دولار) وفرق التأمين، إضافة إلى ارتفاع كلفة عروض الشركات المتقدمة لإدارة صندوق التأمين ومعيل التأمين الخارجي، باعتبار الصندوق يجنح نحو تسجيل خسائر. ويأتي ذلك ليزيد الإشكالات داخل مجلس النقابة، إضافة إلى أزمة المهندسين المتقاعدين الذين يقفلون مداخل النقابة ويمنعون الإداريين من دخولها احتجاجاً على تقاضيهم رواتب لا تتعدى مليونين ونصف مليون ليرة شهرياً.
ويؤخذ على ياسين أنها المرّة الأولى في تاريخ النقابة التي لا يلبي فيها أمين المال طلبات أعضاء مجلس النقابة بتقديم تقرير مالي للمجلس، علماً أنّ التقرير الرسمي الأخير قُدّم في أيلول الماضي. وعليه، لا يفهم هؤلاء سبب تمنّع ياسين وأمين المال شارل فاخوري عن الكشف عن التقرير الذي يُقدّم دورياً أو بعد أسبوع من طلب يقدمه أحد الأعضاء خلال جلسة المجلس. هذا التمنّع يجعل من الصعب تقدير قيمة العجز الحقيقي في موازنة 2022، فيما يتردّد أنه يصل إلى 20 مليون دولار.
مصدر نقابي «موالٍ» يبرّر الأمر بأنّ «التقارير المالية تصدر عن الدائرة المالية قبل أن يقوم أمين المال بشرحها ووضعها في سياقها، قبل أن يعرضها النقيب على المجلس ويدعو هيئة المندوبين لشرح التقرير لهم أو توزيعه عليهم بلا شرح. والتأخير سببه التغيّر الحاصل في المداخيل والمدفوعات، إذ إن بعض الأموال تُدفع أو تقبض بالدولار أو بحسب منصة «صيرفة» أو بالليرة. وعليه، فإنه لا يوجد تمنّع عن تسليم التقرير المالي الذي عُرض في موعده في اجتماع هيئة المندوبين في أيلول الماضي وهي واحدة من الجلستين الرسميتين اللتين تلتئم فيهما الهيئة بحسب النظام الداخلي (الآخر في آذار)». لذلك، تتهم المصادر البعض باستغلال الأمر لـ «القواص» على ياسين وإضعافه، وتؤكّد أنّ هناك «تجنياً في كثير من القضايا التي تُطرح في إطار نوايا مُبيّتة»، وفي سياق «تصفية حسابات» بين أعضاء مجلس النقابة.
في المقابل، يشير نقابيون معارضون إلى عجوزات ضخمة نتيجة أخطاء في إدارة النقيب. فعلى سبيل المثال، يصل عجز صندوق التقديمات الاجتماعية في ما خص التأمين الاستشفائي وحده إلى نحو 11 مليون دولار، إذ بلغت ميزانية التأمين عام 2022 نحو 40 مليون دولار كان يفترض تغطيتها من الاشتراكات ورسوم فرق التأمين التي سدّدها أكثر من 95% من المنتسبين. وفيما بلغت قيمة الفواتير 25 مليون دولار، لم يُدفع منها إلا 17 مليون دولار فقط، إضافة إلى فواتير لم تصل بعد عن الأشهر الأربعة الماضية تُقدّر بنحو 10 ملايين دولار.
هذا الأمر ينفيه مسؤولون في النقابة ويؤكدون أنّ الدائرة المالية لم تُسجّل أي عجز بعد، وهي تقوم بدفع كل الفواتير المستحقّة من المستشفيات بما فيها تلك الفواتير المستحقة عن بداية كانون الثاني، وأموال احتياطية كودائع وضعت في صناديق المستشفيات. غير أن المعارضين يشدّدون على أن «العجز واقع». وفيما يتّهم بعضهم جهات في النقابة بـ«ملعوبٍ» تفوح منه رائحة فساد كبرى عبر «تشغيل» أموال النقابة في أعمال الصيرفة لمصلحتهم الخاصة، إلا أن آخرين يحاذرون توجيه مثل هذه «التهمة الكبيرة»، مكتفين بالإشارة إلى «سوء الإدارة الذي أدى إلى استنزاف الصندوق»، إذ إنّ الخطأ الأول الذي ارتكبه المجلس هو استيفاء الاشتراكات وفرق التأمين على دولار «صيرفة»، وكان يفترض تصريف هذه الأموال عبر «صيرفة» كي لا تُسجّل خسائر مع ارتفاع الدولار وأن يُستخدم جزء منها لتغطية فواتير المستشفيات المستحقّة ودفع مبلغ احتياطي إلى المستشفيات، وهو ما لم يحصل. ففي أيلول هدّدت المستشفيات بعدم استقبال أي مهندس في حال لم تسدّد النقابة الفواتير المستحقة. علماً أنّ اتفاقاً أُبرم بين المستشفيات والنقابة مطلع العام الماضي بدفع 40 ملياراً عبر شيكات مصرفيّة. ومع تأخر النقابة في التسديد إلى أيلول وتراجع قيمة الشيكات مع ارتفاع الدولار تراجعت المستشفيات عن الاتفاق.
وتشير رواية يجري تداولها أنه بعد التدقيق في أسباب عدم دفع الأموال للمستشفيات رغم انقضاء أشهر على إقرار الموازنة (تأخر إقرار موازنة 2022) وتسديد المنتسبين للمستحقات، تبيّن أن 360 مليار ليرة بقيت موضبة في خزائن وأكياس داخل النقابة، بدل تحويلها إلى دولارات عبر منصّة «صيرفة»، ما أدى إلى خسائر في صندوق التقديمات الاجتماعية «لم يُحدد حجمها بعد»، بحسب مصادر نقابية. ولذلك، حاول مجلس النقابة الإسراع في إقرار دفع الرسوم بالدولار الفريش لتعويض جزء من الخسائر. ويلفت هؤلاء إلى أنّ ما يزيد الطين بلّة هو العجز في الصناديق الأربعة: صندوق النقابة، صندوق التقديمات، صندوق المهندسين الأحرار (الاستشاريين)، وصندوق التقاعد. ويظهر العجز في الأخير أكثر من غيره من خلال الرواتب والتقديمات الهزيلة للمُتقاعدين. ففي العادة، عندما يتم قطع الوصولات يُكتب عليها حصة كل صندوق منها على أن يتم ترحيلها مباشرةً. لذلك يخشى أصحاب هذه الرواية من أنّ هذه الأموال لا يتم ترحيلها بل تُخلط معاً لتغطية العجز وتغطية نفقات المستشفيات المُستحقّة، على أن يقوم مجلس النقابة على الأغلب برفع الاشتراكات وقيمة التأمين لتسديد المستحقات إلى المستشفيات باعتبار أن لا حلّ آخر، ليكون العجز أكبر في موازنة 2023.
العجز سيُعوّض من جيوب المهندسين عبر زيادة رسوم الاشتراك إلى أكثر من 200 دولار


ينكر المعنيون داخل النقابة ما سبق جملة وتفصيلاً، مشيرين إلى أنه تُرك للمنتسبين خيار دفع الاشتراكات إلى الصندوق بالدولار أو بالعملة اللبنانية بحسب منصة «صيرفة» على أن تقوم الدائرة الماليّة بصرف الأموال في المصارف. لكنّ تعميماً صدر عن مصرف لبنان في حزيران الماضي بوقف العمليات على المنصة للمؤسسات الكُبرى عرقل الأمر. فبدأ التفاوض مع مصرف لبنان لاستثناء النقابة من هذا التعميم باعتبار أنها لا تستخدم هذه الأموال للمضاربة بل تستوفي الرسوم وتصرّفها وفق سعر المنصة. وفي انتظار الموافقة الاستثنائية التي لم تأت، أبقت الدائرة المالية أموال الاشتراكات داخل النقابة. وبعد عرض الأمر على هيئة المندوبين وافقت على صرف الأموال في السوق السوداء. إلا أن أمين المال توصل الى اتفاق مع المستشفيات على دفع مستحقاتها بالليرة، وبذلك خُفّضت الخسائر جراء تعميم مصرف لبنان». كل ذلك، بحسب المعنيين داخل النقابة، يشير إلى أن البعض يسوّق «نصف الحقيقة» أو حتى أموراً لم تحصل للنيْل من النقيب.



«تقاعدٌ مذل»
غضب المهندسين المتقاعدين لم يخفت، بعدما أوصلهم مجلس النقابة إلى «تقاعدٍ مذل»؛ تأمينٌ استشفائي غير كافٍ لتقديم الرعاية الكاملة وراتب لا يتعدّى مليوني ليرة فيما تتقاضى عائلات المتقاعدين المتوفّين 30% من قيمة هذا المبلغ، أي ما يُعادل 800 ألف ليرة شهرياً. حتى أن المساعدة الماليّة التي أقرّها مجلس النقابة الشهر الماضي، وهي عبارة عن راتب إضافي، سرعان ما تم توقيفها، ورُفض مطلبهم بذريعة تحسين الرواتب مع إقرار موازنة العام 2023 في آذار المقبل.
المتقاعدون رأوا في رفض مطلبهم استخفافاً من مجلس النقابة بحاجاتهم. لذلك، قاموا خلال الفترة الماضية بخطوات تصعيديّة فأقفلوا أبواب مقر النقابة الرئيسي في الكولا ومنعوا الموظفين من الدّخول وممارسة أعمالهم، ونصبوا خيماً عند الباب الرئيسي.
كما قرّر المهندس علي برو أن يخوض المعركة على طريقته بالبقاء في الخيمة والإضراب عن الطعام إلى حين تنفيذ مطالب المهندسين المتقاعدين. 7 أيّام خاض خلالها برو معركة «الأمعاء الخاوية» حتى تدهورت حالته الصحية الأسبوع الماضي، وتم نقله إلى المستشفى. ودفع ذلك ياسين إلى الدعوة، في اليوم التالي، إلى لقاء حضره أعضاء من مجلس النقابة ومجموعة من الهيئة التأسيسيّة لرابطة المهندسين المتقاعدين وعد خلاله النقيب بـ«إحياء» المساعدة الماليّة التي تم إعطاؤها للمتقاعدين. وعلى هذا الأساس، فكّ المتقاعدون الخيم وأوقفوا حركتهم الاحتجاجيّة أمام باب النقابة، لفتح المجال أمام اجتماع مجلس النقابة، آملين في أن تنفّذ النقابة هذه المرة وعودها بتحسين أوضاعهم الماليّة عكس ما كان يحصل سابقاً. وفي حال عدم إقرار المساعدة الماليّة، فإنّ المهندسين المتقاعدين سيُعاودون خطواتهم التصعيديّة «ولكن هذه المرّة بزخمٍ أكبر إذ أننا سنصعّد أكثر إلى حين تنفيذ مطالبنا»، وفق ما يؤكّد برو لـ«الأخبار».
وإذا كان المطلب الحالي للهيئة التأسيسيّة للمهندسين المتقاعدين هو إقرار المساعدة المالية، فإنّ لها أيضاً مطالب أُخرى ذكرتها في أكثر من بيان ومؤتمر صحافي، أبرزها: استرجاع المعاش التقاعدي إلى ما كان عليه قبل الأزمة، أي 900 دولار، إصدار قرار من مجلس النقابة بإنشاء رابطة للمتقاعدين، بالإضافة إلى تمثيلهم في صندوق التقاعد.
يذكر أنّ صندوق التقاعد يعاني كغيره من الصناديق، عجزاً، بعد سنوات قضاها المتقاعدون يرفدونه بالمدخرات المالية العالقة اليوم في المصارف.