ليس ثمة ما يدعو الى الاعتقاد بأن رئيس البرلمان نبيه برّي في صدد توجيه دعوة الى جلسة ثانية عشرة لانتخاب رئيس للجمهورية قريباً. بدورهم المرشحون الجديون ليسوا في صدد كشف المستور وخوضهم الانتخابات علناً وفي الوقت الحاضر. تالياً لا يزال الملعب متروكاً للاعبين الحاليين المعروفين، وهم النائب ميشال معوض والاوراق البيض والاوراق اللاغية ومرشحون غير مرشحين، الى اسماء اخرى وصفات ونعوت يُقترع بها ولها. كذلك لم ينبثق من اي دولة معنية بالوضع اللبناني موقف يُنبىء بتأييدها مرشحاً دون سواه او تشجيعها مواصفات تدل على احد ما، ملتزمة ظاهراً على الاقل التفرج والصمت والمطالبة بانتخاب الرئيس.في ما آل اليه الاستحقاق راهناً ان السجال الناشط من حوله يدور على مرشحيْن اثنين على انهما الاوفر حظاً، القادران على حجب ما عداهما. كلاهما غير مرشح علناً ورسمياً، بيد ان التكهنات وفرق العمل المحيطة بهما والمراجع المؤيدة لكل منهما احالتهما كذلك. كأن السباق اضحى مقتصراً على احدهما، لا ثالث لهما. هما النائب السابق سليمان فرنجيه وقائد الجيش العماد جوزف عون.
كلاهما يواجهان المشكلة نفسها التي لا تزول تحول الى الآن دون الانتقال، جلسة بعد اخرى، من الدورة الاولى للاقتراع الى الدورة الثانية. كلاهما ايضاً يستقطب اكثر من فريق يؤيده، ويجبه في الوقت نفسه خصوصاً في الطوائف والمذاهب والاحزاب اكثر من فريق يعارضه. ليس في وسع اي منهما، في غياب التوافق وتسوية محلية مقترنة بغطاء خارجي، تأمين التئام ثلثي البرلمان في كل دورات الاقتراع وليس الاولى فحسب التي لم تتعدَّ في مواعيدها الاحد عشر المنصرمة كونها استعراضية ليس الا.
المرشحان المفترضان هذان تنقص كل منهما كذلك الغالبية المطلقة من الاصوات التي ترجح فوز احدهما من الدورة الثانية او التي تليها. بذلك يتساويان في الحظوظ: مئة في المئة وصفر في المئة في الوقت نفسه في انتظار حدث ما.
مع ذلك، فان استقطابهما الاشتباك الدائر من حول الاستحقاق، وضَعَ كليهما كما الافرقاء الذين يدعمونهما في مآزق ليست قليلة الاهمية ويصعب الخروج منها بلا مفاجأة او حدث صادم او اعلان احدهما انكفاءه:
اول الافرقاء هؤلاء حزب الله الذي لا يضع فيتو على قائد الجيش لكنه ليس في رأس سلم اولوياته. ليس مرشحه حتماً، ولا يسعه التسليم بانتخابه بلا تسوية يشارك الخارج فيها او يصنعها، ويكون الحزب طرفاً مفاوضاً اساسياً يخرج منها بالضمانات الكافية للاطمئنان الى عون رئيساً للجمهورية. لا صلة للضمانات المطلوبة - المُعبَّر عن احدها في المواقف المعلنة لامينه العام السيد حسن نصرالله وهو ان لا يُطعن في الظهر - بموقع الجيش ودوره في المرحلة المقبلة. ما ان يصبح قائد الجيش، اي قائد للجيش، رئيساً للجمهورية يفقد نفوذه وتأثيره على الجيش ما خلا ما تجيزه له الصلاحيات ومراعاة توازن القوى الداخلي. ويصبح مذذاك للجيش قائد جديد يُعيّن تبعاً للتوازنات نفسها في مجلس الوزراء، ويجعل من نفسه - كما يجعل منه المحيطون به - مشروعاً مبكراً لرئاسة الجمهورية بعد ست سنوات.
بالتأكيد يقدّر حزب الله علاقته بعون في المرحلة المنصرمة، ولم يشعر انه اخطأ حياله او اساء فهمه وعرّضه للاذى. بيد ان حسابات رئاسة الدولة مختلفة تماماً. لا مرشح للحزب اولاً واخيراً سوى فرنجية، ولا هو في صدد التفاوض على ترشيحه. ما يريده حزب الله في الاستحقاق الحالي ان لا يخسر ما منحته اياه ولاية الرئيس ميشال عون من تأثير ودعم وغطاء وتبرير. من ذلك اصراره على تأييد الزعيم الزغرتاوي على انه يمثل استمرار تحالف رئاسة الجمهورية مع المقاومة.
بلا صدمة او مفاجأة لن يستقطب فرنجيه او عون ثلثي التئام البرلمان


ثاني الافرقاء الثنائية المحدثة - لكنها القديمة حتماً - بين برّي والنائب السابق وليد جنبلاط. ثانية ثنائيات رئيس المجلس، بعد الثنائي الشيعي، هو الذي يسعه ان يكون فريقاً وحَكَماً في آن. موقع برّي في الاستحقاق الحالي الى جانب حزب الله في تأييد انتخاب فرنجية، وهي ليست المرة الاولى بعد عام 2015، الا انه يخوض مساراً موازياً لخياره الاصلي، جنباً الى جنب مع زعيم المختارة الواسع الاحتراف في البلياردو السياسي: ضد انتخاب فرنجية كيفما تقلّبت الحال ولن يؤيده، بيد انه اخبر برّي في اجتماعهما الاخير في عين التينة (الثلثاء 31 كانون الثاني) انه لن يدخل في خلاف مع الثنائي الشيعي، وتحديداً حزب الله، حيال انتخابات الرئاسة.
يُعبّر جنبلاط بذلك عن استمرار رفضه انتخاب فرنجية الذي يتمسك به الحزب، الا انه في المقابل يفتح باباً على حلول ثالثة في الامكان التوصل اليها. طرحه اسم قائد الجيش الذي يُفترض ان رئيس البرلمان لا يعارضه او يرفضه، وإن هو يؤيد فرنجية، ليس عنده نهاية المطاف لايجاد مخرج للاستحقاق، بل احد المنافذ المتاح التوصل اليها. يفضّل جنبلاط، المُجرَّب طويلاً وعميقاً في الرهان على محاور الخارج، ان لا يُعاود مجدداً التجربة خصوصاً بعد الدروس المكلفة والمخيبة بين عامي 2005 و2008.
ثالث الافرقاء هو الانقسام المسيحي - المسيحي المألوف في كل مرة تقبل انتخابات رئاسة الجمهورية. ليس المتناحرون الحاليون الا الاحفاد السياسيون لأولئك الذين سبقوهم بادماجهم الاعتبارات الشخصية بالحسابات السياسية، والتنازع على الزعامة وابصار كل منهم، في مرآة نفسه، انه إما الرئيس الافضل او الناخب الوحيد. في محاولة ثالثة على غرار انتخابات 1988 و2007 تحاول بكركي الاضطلاع بدور المرجع دونما استعادة تجربة خدعت البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير عندما طلب منه الاميركيون مرة والفرنسيون مرة اخرى وضع لائحة بمرشحين ضمنوا له الاخذ بها، سرعان ما خذلوه تباعاً. وصلت بكركي اخيراً الى النبرة الاعلى في الحض على انتخاب الرئيس دونما استجابة. مشكلتها في «تسوُّس» ينخر الطائفة من داخلها: النائب جبران باسيل وسمير جعجع اجتمعا على رفض ترئيس فرنجية كلٌ لاسباب مغايرة للآخر، واختلفا على ترئيس قائد الجيش كلٌ بحجة مختلفة ايضاً، دونما ان يتفقا على بديل ثالث. مفارقتهما ان الاول لم يقل مَن يرشّح كي ينتخب، والثاني رشّح مَن يثق بأنه لن يُنتخب. بذلك قادا الاستحقاق في وجهتين معاكستين تعزز اسباب حزب الله في عدم استعجال انتخاب الرئيس. مع ذلك لا يسعهما الا ان يشعرا بأنهما متروكان بلا حلفاء، محاطان بالخصوم، يوشكان - وهما رئيسا الكتلتين المسيحيتين الكبريين - ان يصيرا على هامش انتخاب رئيس الجمهورية الماروني.
كلاهما، باسيل وجعجع، بلا حليف سنّي إن لم يُمسيا اكثر المكروهين عنده. بلا حليف درزي (بعد التحوّل الاخير لجنبلاط نحو برّي). مجرّدان من حليف شيعي. اخيراً صوّب كل منهما على الحليف الشيعي المفترض انه يدرأ عنه نصف الثنائي المعادي له: باسيل على حزب الله وجعجع على برّي.