لم تنته الارتدادات النفسية والشعبوية للهزة الأرضية التي وقعت فجر أمس عند معظم اللبنانيين. يستمرّ الحديث عن الهلع الذي عاشوه طوال 40 ثانية من الارتجاج، وكيف خرجوا إلى الشوارع «كما لو أنه قامت القيامة». يرفض كثيرون تصديق أن الهزّة «قطعت»، بخاصة أن الهزّات الارتدادية تتواصل جيولوجياً، تصاحبها إشاعات وتوقعات تخوّف من «الزلزال والتسونامي المنتظرين» وسط صور مفجعة تصلهم من مناطق مجاورة في تركيا وسوريا، ينظرون إليها كما لو أنها المستقبل القريب الذي ينتظرهم.لم يفلح جنون العاصفة في إبقاء جزء كبير من اللبنانيين في بيوتهم بعدما استيقظوا على اهتزاز السرير والخزانة والأرض وكلّ ما يحيط بهم، ويؤكد حقيقة أنهم يعيشون كارثة طبيعية. هرعوا من بيوتهم تحت زخات المطر وضرب الرياح، بعضهم بحالة هستيرية راح يطرق على أبواب الجيران بينما يستخدم السلالم، وقصدوا الشوارع والساحات الآمنة، فيما مكث بعضهم في سياراتهم. وظهر الاختناق المروري في أكثر من منطقة في غير وقته. مشهد أعاد حسن إلى حرب تموز والصور التي ترتسم بعد كلّ ضربة، «العائلات في الشوارع في عتمة الليل، لا تدري ماذا تصنع غير الاستغفار وتكرار شهادة الموت».

هرب من المنازل
استجاب فراس لإلحاح زوجته، فنزل إلى الشارع حيث يسكن مشككاً في صواب ما يفعل، فـ«الأبنية متلاصقة وإذا وقعت ستقع علينا»، لكنها كانت ردة فعل سريعة تشبه تصرف جارته أم زينب التي هرعت من منزلها بـ«ثياب النوم»، ثم استدركت أن أموالها في المنزل، فصعدت ثانية لتأتي بهم، ما أضحك الواقفين الذين سخروا منها: «هل ستأخذيهم معك إلى القبر»؟
في طرابلس، سادت حالة الطوارئ والاستنفار، إلى حدّ إطلاق عدد من الشبان النار في الهواء ليوقظوا جيرانهم ويدفعونهم إلى مغادرة منازلهم، لا سيما المتصدّعة منها. كذلك رفعت في مآذن الجوامع تحذيرات لإخلاء البيوت. تنقل سوزان من القبة أن «قلّة لازمت منازلها، فيما نام أبناء منطقة ضهر المغر في القبة في سياراتهم، وعجّت ساحة معرض رشيد كرامي بالآتين من منطقتي الضم والفرز والمئتين». وفي البقاع، قصد «النازحون» الساحات الواسعة والسهول الفارغة من العمارات، وعلى رغم سوء الأحوال الجوية في بعلبك امتلأت حديقة رأس العين بالهاربين.

ما الذي يحصل؟
اختلفت تفسيرات اللبنانيين لما عاشوه فجر أمس. هناك من ربط الهزّة بشدة العاصفة، وهناك من ظنّ نفسه يتخيّل أو يشعر بالدوران، وفسّرها البعض قصفاً إسرائيلياً ترتجّ على إثره الأبنية… قام عمر من فراشه ليغلق الباب الذي «يرقص ويصدر صوتاً مزعجاً بسبب العاصفة، كما ظننت. لكنني لم أستطع أن أوقف اهتزازه، حتى استيقظ جميع من في المنزل يصرخون: زلزال». ويروي حسين ما حصل معه عندما كان في موقف السيارات، «بينما كنت أضع المفتاح صارت ترتجف السيارة ولم أستطع إرجاعها إلى الوراء. فقلت في نفسي: «من الذي يهزّ سيارتي»؟ تلفت يميناً ويساراً وإذا بجميع السيارات تهتز أيضاً ففسر الأمر: «لابسهم جنّ لا محال».
من يقلقه «هاجس وقوع البناء المهدّد أصلاً بالسقوط» لم يخطر على باله لحظة الهزّة غير أن الهاجس تحقق، مثل زهراء التي تسكن مع عائلتها في بناء قديم منذ أكثر من 30 سنة في برج البراجنة، تأكله الشقوق والتفسخات. كرّرت زهراء على مسمع العائلة عبارات «التخويف من عدم قدرة البناء على الصمود أمام عظمة العاصفة فرح»، لكنها عبارات لا تتعدى المزح، حتى استيقظت على اهتزاز البناء الذي حولها إلى جدّ. «عم توقع البناية»، أول ما نطقت به الأم وكرره الأولاد. صحيح أن ما حصل لم يكن حكراً عليهم، لكن ذلك لم يمتصّ خوفهم وذعرهم، فـ«ماذا لو تجدّدت الهزة أو تبعها زلزال؟ كيف سيصمد البناء؟»

الارتدادات تتواصل
تواصلت الهزات الارتدادية للهزّة الأرضية على المستوى الشعبي، لا سيما النفسي، بخاصة مع التحذيرات التي تحيط بهم من تجدّدها في الأيام المقبلة بعدة مستويات، بعضها قد تكون قوية. واعترى الخوف جيران البحر القلقين من وقوع تسونامي، من بينهم ريما التي تفكر في الانتقال إلى الجنوب حيث تملك منزلاً مستقلاً إلى جانبه ساحة كبيرة.
هناك من ربط الهزّة بشدّة العاصفة وهناك من ظنّ أنّه يتخيّل أو يشعر بالدوران


بعد ليلة «الرعب» التي عاشوها، لم تنم مجموعة من الرجال في الأوزاعي. طلع الصباح عليهم ولا يزالون يجتمعون في الشارع ويترقبون ماذا سيحصل. عندما حصلت الهزة علت التكبيرات من حولهم: «هزة أرضية، الله أكبر»، وعمّ صوت القرآن في الأرجاء. فنزلوا يطرقون الأبواب ويوقظ بعضهم بعضاً للنزول إلى الساحة المجاورة الآمنة. أشعلوا «الأراغيل» ليقتلوا النعاس ويظلوا مستيقظين إذا تكررت الهزة…
في الصباح، نزلت النساء إلى الأسواق وفي سلامهنّ نكهة وداع، مثل وداع وداد لأختها قبل ذهابها إلى العمل بعد الهزّة. الزحمة المستجدة لدى بائع التبغ والصراف في الوقت ذاته غير مفهومة. فالناس تتصرّف كما لو أنها تموّن، والمثير للسخرية أنها تموّن ليرات وسيجارات. وهذا قد يستبق إعلان حالة حرب مثلاً لكنه لا ينسجم مع مخاوف من «زلزال محتمل» نتيجته محسومة: الموت أو الحياة.



لنا أحبّة في تركيا وسوريا
كل هذا الهلع، ولبنان لم يتضرّر فعلياً من الزلزال الذي ضرب المنطقة. فكيف ستكون حال سكان هذه المنطقة؟
سؤال لا يفارق اللاجئين السوريين في لبنان الذين يتألمون من مشاهد الدمار والأشلاء في وطنهم، و«كأنه كتب على سوريا الشقاء»، تقول اللاجئة منتهى. اطمأنت على صحة أقربائها في سوريا وهدأت لأن الأضرار أصابت الحجر وليس البشر في العائلة. لكنها تتأسف لـ«حال صديقتي التي تحتضن رضيعها وتمكث في سيارتها برعب منذ فجر الأمس».
لا يركّز بائع الخضر السوري الجنسية. رأسه مدفون في هاتفه. يتصفح الأخبار ويدمع لهول المشاهد. يرمي هاتفه على الطاولة بعد فشل كلّ محاولات الاتصال بعائلته.
أما أحمد، فما كاد يصحو من «كابوس» الهزة حتى اصطدم بـ«كابوس أفظع». وصلته الصور ومقاطع الفيديو من تركيا وسوريا صباحاً. وصحيح أن الكارثة لم تقع حيث يعيش في لبنان، لكن لسوء حظه في كلّ بلد يترك أحباباً. عماته الخمس يقطنّ في هاتاي في تركيا، وعائلة والدته تسكن في مدينة طرطوس السورية. «جو المنزل مكهرب»، كما يصفه، فالوالد خرج من مرحلة الإنكار إلى مرحلة الصدمة، بخاصة مع عدم القدرة على التواصل مع أخواته جراء تضرر شبكة الاتصالات. الأمر ذاته ينطبق على سوريا «ما يدفع الوالدة إلى الجنون، منذ عرفت بما حصل وهي تردّد: «كان قلبي حاسسني، قلت لكم إن مكروهاً سيحدث».