رغم صمودها واستمرار جاذبيتها كممرّ للطامحين إلى المراكز العليا في الدولة، إلا أن المحاماة تأثّرت كغيرها من المهن بالأزمات السياسية والاقتصادية التي تمرّ بها البلاد. فالنزاع السياسي أرخى بثقله على نقابة يفترض أن تكون الأبعد عن الاصطفافات. ومن يراقب الانتخابات في نقابة المحامين في الدورات الأخيرة يلاحظ الدعم العلني الحزبي لمرشحين من دون غيرهم، بعدما كان المحامي يُنتخب لمناقبيته وعلمه حصراً. وهذا الأمر ليس شاملاً طبعاً، لكنه غريب على نقابة المحامين. أما اقتصادياً، فلا يخفى تأثر المحامين بالأزمة وبالإضرابات المتتالية، من إضراب المحامين عام 2021، وصولاً إلى إضراب المساعدين القضائيين حالياً وما خلّفه من تمنّع الموكلين عن دفع الأتعاب لعدم إيمانهم بالقضاء كحل لمشكلاتهم، ما أدى إلى إغلاق عدد كبير من المكاتب لعدم قدرتها على دفع المصاريف.أمام هذا الوضع، ما الذي يدفع طلاب الحقوق في الجامعات اللبنانية إلى خوض تجربة الدخول إلى نقابة المحامين؟

(أنجل بوليغان ــ المكسيك)

يختلف طلاب الحقوق في توصيفهم لمهنة المحاماة. منهم من يرى فيها رسالة إنسانية للدفاع عن المظلومين، ومنهم من يراها مصدراً للثروة أو باباً للوصول إلى مراكز سياسية وديبلوماسية أو إرثاً عائلياً فُرض عليه لمتابعة مسيرة أحد والديه.
أحمد حدرج، طالب سنة رابعة حقوق في الجامعة اللبنانية، نشأ في عائلة تمتهن المحاماة، يعتبر أن للمحامي دوراً أساسياً في نهضة المجتمع، ويشدد على رغبته في ممارسة هذه المهنة رغم صعابها لمساعدة الناس والوقوف إلى جانبهم لاسترجاع حقوقهم متسلحاً بالقانون. أما ريان مرتضى (سنة أولى حقوق، في جامعة الحكمة) فتعتبر المحاماة «رسالة بالدرجة الأولى، وهي ضرورية جداً، كونها تعطي المحامي فرصة لاستظهار الحقائق وتحقيق العدالة وتأكيد سيادة القانون. يقصد كل الناس المحامي من مختلف الطبقات الاجتماعية إيماناً بدوره، هذا ما نتعلمه من خلال دراستنا لاختصاص الحقوق، وسنتدرب على تطبيقه عملياً بعد التخرّج». وتتابع أنها ترغب في أن تكون محامية كي تدافع عن القضايا العادلة وتسترجع الحقوق المغتصبة وترفع صوت كل مظلوم.
من جهته، يطمح الطالب مارون عبدو خليل (سنة رابعة حقوق، في جامعة الحكمة) أن يكون محامياً «لأن للمحامي دوراً مهماً جداً في المجتمع، وهو قادر على الدفاع عن حقوق الناس وفق الأطر القانونية المعمول بها»، لافتاً إلى أهمية دراسة اختصاص الحقوق بشكل عام، «فهي تفتح الباب أمام الطلاب كي يصبحوا محامين، وتتيح أمامهم أيضاً فرص العمل في السلك القضائي والديبلوماسي. فطالب الحقوق قد يصبح خبيراً دستورياً، وضابطاً، ونائباً، ووزيراً، وكاتباً بالعدل أيضاً».
يتشارك الطالب مصطفى الطباع (سنة ثانية حقوق، في جامعة بيروت العربية) في حماسته وتقديره لمهنة المحاماة مع زملائه، فالمحاماة «توفّر مجالات عمل واسعة للعاملين فيها، وتفتح الباب أمامهم للتميّز وبناء الذات، إذ إن المحامي قادر، من خلال متابعته وعمله الدؤوب، على بناء سمعة طيبة تفتح أمامه أبواباً كثيرة وتجعله مقصداً للموكلين». أما بالنسبة للطالبة مايا شعيب (سنة ثالثة حقوق، في جامعة بيروت العربية) فالمحاماة ليست مهنة تسعى إلى امتهانها في المستقبل القريب، بل هي أشبه بحلم لطالما رافقها منذ طفولتها.

هل الواقع الحالي لمهنة المحاماة يحبط طلاب الحقوق؟
عند سؤال الطلاب عن تأثّر قناعاتهم وحماستهم لخوض غمار مهنة المحاماة وما يترتب عليها من مراحل متعددة، من اجتياز امتحان الدخول إلى النقابة، إلى تحمّل ثلاث سنوات من التدريب قد تكون غير مدفوعة كما الحال في أغلب المكاتب في ضوء التحديات التي تواجه المهنة، أعربوا عن تمسكهم وقناعاتهم بأن الظروف الصعبة التي يمرّ بها لبنان تُعدّ دافعاً إضافياً، لممارسة دورهم في المجتمع بتحقيق العدالة بالتعاون مع السلطة القضائية وصولاً إلى دولة القانون، من دون يأس أو استسلام أو خضوع لأي ضغوطات سياسية أو طائفية.

هل مهنة المحاماة هي سبيل لكسب المال السريع؟
رداً على هذا السؤال، ربط طلاب الحقوق بين مهنة المحاماة وكسب المال، إذ وجد كل طالب سبيله الخاص لذلك. فالطالبة ريان قالت إن «المردود يكون بقدر الجهد الذي يبذله المحامي في الدعاوى الموكلة إليه»، أما مصطفى فاعتبر أن «السمعة الجيدة هي يلي بتجيب شغل أكتر للمحامي». بينما رأى أحمد أن «التوسع في مجالات مهنة المحاماة يساعد في تحقيق مكاسب مادية من خلال مجالات التحكيم وتقديم الاستشارات القانونية للمؤسسات والشركات التجارية»، وأضافت مايا «بينصحوني بالتخصص بقانون الشركات لأنه في شغل أكثر»، أما مارون فقال: «مهنة المحاماة أكيد بتطلِّع مصاري، بس ما بعرف بالضبط كيف الوضع حالياً كَوني بعدني عم بدرس، بس بعرف المستفيدين أكثر هني المستشارين القانونيين للشركات والمؤسسات الكبيرة».
بين طموحات وآمال الطلاب (محامو المستقبل) وواقع مهنة المحاماة الحالي، تجارب واقعية تستحق أن تُحكى، يخوضها محامون منذ سنوات طويلة وسط تحديات كثيرة ومصاعب عديدة. ماذا بقي من أحلام المهنة؟ هل ما زال المحامي يجد في مهنة المحاماة «مهنة العمر» أم أنهم

يعلقون أمنية في العام 2023، حبذا لو لم نكن في قائمة المحامين؟
«يعيش المحامي اليوم أسوأ مراحل حياته، هناك العديد من مكاتب المحاماة أقفلت، فيما عمد عدد آخر إلى الاستغناء عن عدد من المحامين تحت وطأة الظروف الاقتصادية الصعبة التي نعيشها منذ أكثر من ثلاث سنوات في لبنان، ورغم ذلك كله، أنا مستمر في عملي كمحامٍ لأني مؤمن بدور المحامي في تحقيق العدالة في قضايا الشأن العام، بخاصة اليوم في المعركة القضائية التي نخوضها في وجه حيتان المال والسلطة"، يقول المحامي حسن بزي متحدثاً عن تجربته الشخصية في هذا المجال. "كنا من أوائل المحامين في جمعية «الشعب يريد إصلاح النظام» الذين لاحقوا رأس المنظومة المصرفية، حاكم مصرف لبنان وحجزنا على جزء من أملاكه»، ولكن المشكلة بحسب رأيه، أن «هذه الدعاوى لا تلقى دعماً وتمويلاً، وهناك تكاليف لها علاقة بالخبراء، أمام هذا الواقع هناك من يتجنب الخوض في هكذا قضايا حتى لا يتأثّر عمله».
يؤكد بزي أن المحاماة هي المهنة التي يتمسك بها في العام 2023، «رح نستمر برفع الصوت للتأكيد على أن المحامي وظيفته ليست محصورة بتقديم دعوى، بل وظيفته أن يكون مع الناس يناصر القضايا المحقة، ويواجه الفساد بكل أشكاله ومستوياته، ما بيقدر يكون المحامي موظف عند حدن عم يشتغل لمصلحته مش لإحقاق الحقّ».

تحدّ ذاتي
«التحديات يلي بيعيشها المحامي في لبنان أصعب بكتير من أي بلد في العالم، الوضع الحالي للإدارات العامة والمؤسسات القضائية والإدارية ما عم تساعد المحامي حتى يقدر يقوم بواجباته، عم بصير عند المحامي تحدّي ذاتي حتى يطبّق القانون ويستمر بالمهنة ويضل قادر إنه يساعد الناس بتحصيل حقوقها»، يختصر المحامي رامز عدنان حمود واقع مهنة المحاماة اليوم، مشيراً إلى أن «المحامي في لبنان يخلق من الضعف قوة حتى يصل إلى نتيجة في الملفات الموكل بها، صحيح في كتير إحباط، ولكن أصبح لدينا ملكة السيطرة على الإحباط، ما عاد عم ياخدنا الوضع إلى الإحباط، بالعكس خلق تحدّياً كبيراً فينا حتى نستمر».

نظرة أشمل للمهنة
«الأمل دايماً إنو تكون هيدي الفترة يلي عم نمرق فيها ظرف مؤقت وبيقطع، كانت الأمور ماشية من 3 سنين وكل شي تمام، على الرغم من إنو الواقع ما كان مثالي"، تتشارك المحامية ريم بردى الدوافع ذاتها التي قادتها إلى مهنة المحاماة مع الطالبة مايا شعيب، فهي كانت تتابع في صغرها عبر شاشات التلفزة ما يحصل من عمليات تعذيب وإجرام بحق المعتقلين في سجن الخيام من قِبل العدو الصهيوني، كانت تتمتم حينها بصوتها الطفولي «بدي كون محامية حتى دافع عن المظلومين». وفيما يرتبط بواقع مهنة المحاماة انطلاقاً من تجربتها، تقول: "مع الوقت بتصير نظرة المحامي أشمل للمهنة، خاصة إنو المحامي بكون موكل عن «المدعي» وأوقات عن «المدعي عليه»، بيكون عم يشتغل على حقّ الدفاع لموكله، شخصياً ما بفوت بقضايا مخدرات وقتل بعتبرها خطوط حمراء».
يعيش المحامي اليوم أسوأ مراحل حياته، تحت وطأة الظروف الاقتصادية الصعبة


وتضيف: «في كتير أشياء عم يعملها المحامي اليوم متل تنظيم العقود، وحل النزاعات من خلال الوساطة أو التحكيم، حتى اليوم عم بيروح المحامي لخيار المفاوضات من أجل الصلح بين المتقاضين في ظل الوضع الحالي". ورداً على سؤال حول استمرارها في مهنة المحاماة رغم التحديات، تقول: "الوضع على الجميع، بدها صبر وإيمان وقوة حتى ترجع الأمور تزبط، والمحامي عم بيحاول يبتكر اليوم أساليب للحفاظ على شغله من خلال علاقاته الواسعة والفرص يلي ممكن يحصّلها جراء تقديم الاستشارات القانونية».

وضع القضاء أثّر على المحامين
«لا يمكن أن أختار مهنة غير مهنة المحاماة رغم حجم المعاناة التي نعيشها اليوم، هي مهنة تستحق أن يختارها الإنسان وأن يقاتل من أجلها، فهي السبيل لإحقاق الحقّ وتحقيق العدالة، هي ميدان واسع يلبي طموحات العاملين فيها، ويشرّع لهم آفاقاً للعمل والتقدم والتطور"، بلهجة حاسمة وإيجابية يتحدث المحامي حسين همدر عن التغيّرات التي طرأت على مهنة المحاماة بفعل الظروف الصعبة التي يمرّ بها البلد عموماً، ويضيف: "الأوضاع صعبة صحيح، وهناك معاناة كبيرة عم نعيشها مع الزملاء، كما هو معروف، العدالة ذات جناحين القضاة والمحامين، والقضاء اليوم يعاني ما يعانيه، الأمر الذي أثّر بشكل كبير على مهنة المحاماة، للأسف هناك من يضطر من المحامين للقيام بأعمال لا تمتّ إلى المحاماة بِصلة من أجل تأمين قوت عائلاتهم».