في 26 شباط الفائت، قامت مجموعة كبيرة من المستوطنين الإسرائيليين المسلحين بحماية جيش الاحتلال الإسرائيلي بالاعتداء على بلدة حوارة قرب نابلس، فأحرقوا البيوت والمحال التجارية والسيارات مهددين السكان بالقتل. وأعلن الهلال الأحمر الفلسطيني عن منع قوات الاحتلال الطواقم الطبية من الدخول إلى حوارة، والاعتداء على سيارات إسعاف، فيما فرض الاحتلال حصاراً في محيط نابلس وقراها. أصيب أكثر من 150 فلسطينياً باعتداءات قوات الاحتلال ومستوطنيه، وأُحرق 52 منزلاً و130 سيارة.يمكن تصنيف الاعتداء على بلدة حوارة من ضمن جرائم «الإبادة الجماعية»، طبقاً لتعريف القانون الجنائي الدولي واستناداً لما قاله وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش قبل وقوع الجريمة. ففي تحريض صريح على «التطهير العرقي»، قال سموتريتش إن «قرية حوارة بحاجة إلى أن تمحى». تعليقاً على ذلك، خرج «المنسق الخاص للأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط» تور وينسلاند ليعلن للعالم أن «لا مبرر للإرهاب ولا للحرق العمد والأعمال الانتقامية ضد المدنيين، يجب محاسبة جميع مرتكبي أعمال العنف». وانتهى الكلام عند هذا الحد، كما في كل مرة يتعرض فيها الفلسطينيون للقتل والاعتداء والتهجير والتعذيب منذ عام 1948. الأمم المتحدة وكل أجهزتها اليوم، عاجزة، إرادياً، أكثر من أي وقت مضى، عن «محاسبة جميع مرتكبي أعمال العنف». إذ إن المحكمة الجنائية الدولية لم تجد حرجاً في التحرك السريع والحاسم لـ«محاسبة» الرئيس الروسي على جرائم حرب مزعومة في أوكرانيا، بينما تمتنع عن اتخاذ أي خطوة جدّية وملموسة لمساءلة الإسرائيليين على إمعانهم في ارتكاب جرائم «تطهير عرقي» بشكل شبه يومي في فلسطين المحتلة. فقد أصدرت الدائرة التمهيدية الثانية في المحكمة الجنائية الدولية أخيراً، مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي بشأن مزاعم حول جرائم حرب متعلقة بترحيل أطفال و«نقلهم بصورة غير قانونية» من أوكرانيا، بحسب ما ادّعى رئيس المحكمة القاضي البولوني بيوتر هوفمانسكي، علماً أن تفاصيل مذكرات الاعتقال يفترض، بحسب الأصول، أن تبقى سرية. وفي حين ينقسم العالم بشأن الحرب بين روسيا وأوكرانيا، يبدو أن القيّمين على المحكمة الجنائية الدولية قرروا زجّها في الصراع من خلال إصدار مذكرة توقيف بحق بوتين والتغاضي عن جرائم يشتبه في أن الجيش الأوكراني ارتكبها في منطقة الدونباس بدافع «التطهير العرقي».
وأصدرت الدائرة التمهيدية الثانية في المحكمة كذلك، أمراً باعتقال رئيسة مفوضية حقوق الأطفال في روسيا ماريا ألكسيفنا لفوفا - بيلوفا. وأعلنت المحكمة أن مذكرات الاعتقال تنصّ على مسؤولية كل من بوتين ولفوفا - بيلوفا «عن جريمة الحرب المتمثلة في الترحيل غير القانوني» للأطفال من أوكرانيا إلى روسيا.
الخطوة التي اتخذتها المحكمة الجنائية الدولية سياسية تكشف انحيازها لأجندات الدول الغربية والولايات المتحدة من جهة، وهي أشبه بإعلان عن انخراطها في الحرب النفسية التي يشنّها المعسكر الأميركي - الأوروبي على روسيا بشكل مركّز في وسائل الإعلام والأوساط الاجتماعية والثقافية وحتى الرياضية.

دليل الانحياز
في آذار 2021، أعلنت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية (السابقة) فاتو بنسودا أنها فتحت تحقيقاً رسمياً في «جرائم مفترضة في الأراضي الفلسطينية المحتلة». وعلى رغم أن التحقيق في الجرائم المرتكبة في فلسطين المحتلة بدأ قبل انطلاق التحقيق بشأن ما يحصل في أوكرانيا، واستمرّ مع تولّي كريم خان مركز المدعي العام، لم تصدر مذكرات توقيف أو أي تصريح عن المحكمة يعلن احتمال تحمّل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مثلاً، أو أي من وزرائه أو ضباطه بالاسم المسؤولية، كما فعلت بخصوص الرئيس الروسي ورئيسة مفوضية حقوق الأطفال في روسيا. علماً أن بنسودا أعلنت يومها أن هناك «أساساً معقولاً للاعتقاد بأن جرائم ارتكبت من جانب أفراد من قوات الدفاع الإسرائيلية والسلطات الإسرائيلية وحماس وفصائل فلسطينية مسلحة».
الكيان الإسرائيلي ليس عضواً في المحكمة الجنائية الدولية، وسبق أن عارض الإسرائيليون بشدة أي تحقيق بشأن «أعمال العنف» في فلسطين المحتلة. لكن قضاة المحكمة الجنائية الدولية كانوا قد مهّدوا الطريق أمام تحقيق في جرائم حرب، من خلال إعلانهم أن الاختصاص القضائي للمحكمة يشمل فلسطين كَونها عضواً. لكن يبدو أن المحكمة تماطل وتؤجل وتمدد التحقيق تلو الآخر، إذ إن بنسودا كانت قد أعلنت، منذ كانون الأول 2019، أنها «تريد تحقيقاً كاملاً بعد تحقيق أوّلي استمر خمس سنوات»، وما زال تحقيق ما بعد التحقيق مستمراً حتى اليوم، من دون أن يصدر أي قرار جدّي أو مذكرة توقيف عن المحكمة الجنائية الدولية.

سقط قناع «المحكمة»
نذكر في الآتي بعض الملاحظات الأولية بشأن انكشاف المحكمة الجنائية الدولية:
أولاً، قررت هذه المحكمة السير بخطوة متقدمة من خلال إصدار مذكرة التوقيف بحق الرئيس بوتين متجاوزة الحصانة التي يفترض أن يتمتع بها رؤساء الدول. لكن يبدو أنها تناست أن الرئيس الذي تستهدفه هو رئيس إحدى الدول الخمس الكبرى التي يحق لها تعطيل أي قرار يصدر عن مجلس الأمن الدولي. وبالتالي، لن تستكمل هذه الخطوة بسعي جدّي لتنفيذ مذكرة التوقيف وتكريس شرعيتها وتعميم «عدالتها»، بل على العكس تماماً ستؤدي إلى تثبيت انحياز المحكمة الجنائية الدولية إلى فريق على حساب آخر بدل أن تكون على مسافة واحدة من الجميع.
ثانياً، امتنعت المحكمة الجنائية الدولية عن فتح تحقيق جنائي في جرائم الإبادة الجماعية في فلسطين المحتلة، واقتصر التحقيق على ارتكابات يمكن أن تصنّف جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، على رغم أن الممارسات الإسرائيلية وتصريحات العديد من المسؤولين الإسرائيليين تدل بشكل واضح إلى السعي لـ«تطهير عرقي» وإبادة الشعب الفلسطيني وبناء دولة عبرية يتمتع فيها اليهود بحقوق تتفوق على حقوق غير اليهود.
إعلان رئيس المحكمة عن مذكرة التوقيف بحق الرئيس بوتين أشبه بإعلان عن انخراط المحكمة في الحرب النفسية التي يشنّها المعسكر الأميركي - الأوروبي على روسيا


ثالثاً، إن جريمة «الترحيل غير القانوني» للأطفال من أوكرانيا إلى روسيا، إذا ثبت وقوعها فعلاً، يمكن الرجوع عنها من خلال إعادة الأطفال المرحّلين والتعويض عليهم ومعالجتهم. أما جرائم قتل الأطفال والنساء والشيوخ واستهداف واغتيال الصحافيين على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين المحتلة، فلا يمكن الرجوع عنها. غير أن المحكمة الجنائية الدولية قررت المماطلة في ملاحقة إسرائيليين، بينما يتمادون في ارتكاب جرائم القتل والتعذيب والتهجير بحق الفلسطينيين من دون أي مساءلة أو محاسبة أو محاكمة.
رابعاً، انكشف انحياز المحكمة الجنائية الدولية من خلال عدالتها الانتقائية، خصوصاً لناحية التحرك السريع إزاء الأحداث في أوكرانيا والتباطؤ والمماطلة والتردّد في التحقيق وامتناعها عن اتخاذ أي إجراء أو خطوة عملية إزاء الجرائم التي ارتكبها الجيش الأميركي و{التحالف الدولي} في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن واستمرار تمادي جرائم الإبادة التي يرتكبها الإسرائيليون بحق الشعب الفلسطيني.

أركان جريمة الإبادة الجماعية
جمعية الدول الأطراف في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، كانت قد اعتمدت في دورتها الأولى المنعقدة في نيويورك في أيلول 2002 تحديداً لأركان الجرائم التي تقع ضمن اختصاصها. ومن بين تلك الجرائم جريمة الإبادة الجماعية، إذ حددت أركان الإبادة الجماعية بالقتل (المادة أ6)، وبإلحاق أذى بدني أو معنوي جسيم (المادة ب6)، وبفرض أحوال معيشية يقصد بها التسبب عمداً في إهلاك مادي (المادة ج 6). وطبقاً لهذا التحديد القانوني، لا شك أن هناك عناصر إثبات متعددة تدل إلى أن الإسرائيليين يُمعنون في ارتكاب جريمة إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني. وقد اتفقت الدول الأطراف في نظام روما على أن أركان جريمة الإبادة الجماعية تشمل:
• أن يقتل مرتكب الجريمة شخصاً أو أكثر،
• أن يسفر فعل مرتكب الجريمة عن إلحاق أذى بدني أو معنوي جسيم بشخص أو أكثر،
• أن يفرض مرتكب الجريمة أحوالاً معيشية معيّنة على شخص أو أكثر،
• أن يكون الشخص أو الأشخاص منتمين إلى جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية معيّنة،
• أن ينوي مرتكب الجريمة إهلاك تلك الجماعة القومية أو الإثنية أو العرقية أو الدينية، كلياً أو جزئياً، بصفتها تلك،
• أن يصدر هذا السلوك في سياق نمط سلوك مماثل وواضح موجه ضد تلك الجماعة أو يكون من شأن السلوك أن يُحدث بحد ذاته ذلك الإهلاك.
يُمعن العدو الإسرائيلي بارتكاب هذه الجرائم بحق الفلسطينيين بسبب انتمائهم العربي الفلسطيني، ويقتل المدنيين الفلسطينيين ويعتدي ويُدمّر ممتلكاتهم ويخرّب أراضيهم الزراعية بشكل شبه يومي، ويحاصرهم ويفرض قيوداً على تحركاتهم. وقد أعلن عدد من المسؤولين الإسرائيليين، آخرهم وزير المالية الإسرائيلي الحالي سموتريتش، كما ذكرنا آنفاً، نيّتهم «التخلص من الفلسطينيين» وإزالة قراهم وبلداتهم من الوجود. وهم يفعلون ذلك باستمرار بهدف التوسّع الاستيطاني.



محكمة «غبّ الطلب» بالنسبة لواشنطن


أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن أن مذكرة التوقيف التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية بحق نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، الأسبوع الفائت، بتهمة ارتكاب جرائم حرب، «مبررة». وقالت المتحدثة باسم مجلس الأمن القومي الأميركي، أدريان واتسون إن الولايات المتحدة «لا تساورها شكوك حول ارتكاب روسيا لجرائم حرب وفظائع في أوكرانيا». وأوضحت أن «المدعي العام التابع للمحكمة الجنائية الدولية يتمتع بالاستقلالية ويتخذ قرارته بناءً على الأدلة المطروحة أمامه». وقد بدا ذلك تحوّلاً لافتاً في الموقف الأميركي من المحكمة الجنائية الدولية. ففي آذار 2020، عندما قرر القضاة السماح لمدعي عام المحكمة نفسها التحقيق في جرائم محتملة ارتُكِبت في أفغانستان، استهزأ وزير الخارجية الأميركي آنذاك، مايك بومبيو، بالمحكمة واصفاً إياها بأنها «مؤسسة سياسية غير خاضعة للمساءلة، ومقنَّعة في شكل هيئة قانونية». لكن لا عجب في ذلك، إذ إن الولايات المتحدة تريدها محكمة «غبّ الطلب» في الحروب التي تشنّها مع حلفائها الأوروبيين بحجة «تحقيق العدالة»، بينما تتكثف جرائم الإبادة بحق الشعب الفلسطيني، وتبقى «إسرائيل» في منأى عن أي مساءلة.


رئيس محكمة متحدثاً باسم المدعي العام


على رغم أن «الرئاسة مسؤولة عن الإدارة السليمة للمحكمة باستثناء مكتب المدعي العام،» كما ورد في الموقع الرسمي للمحكمة الجنائية الدولية، وعلى رغم أن للمدعي العام فريقاً إعلامياً خاصاً بما يصدر عنه، بادر رئيس المحكمة القاضي البولوني بيوتر هوفمانسكي إلى الظهور عبر الفيديو للإعلان بنفسه عن صدور مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. واللافت أن هوفمانسكي لم يتطرق إلى المدعي العام، بل قال حرفياً إن «المحكمة أصدرت» مذكرة التوقيف في ما بدا تجاوزاً لمبدأ قرينة البراءة وتلميحاً لحكم مسبق بحق بوتين. فالمحكمة تتألف من المدعي العام ومكتب الدفاع وأمانة السرّ وهيئة المحاكمة، بينما لم تصدر مذكرة التوقيف إلا عن المدعي العام.
وبما أن رئيس المحكمة هو الذي أعلن عن صدور المذكرة، سألت «القوس» المتحدث باسم المحكمة فادي العبدالله عما إذا كانت محاكمة بوتين على جرائم يُزعم ارتكابها في أوكرانيا فيما لا يخضع نتنياهو لأي محاكمة على رغم وجود أدلة كثيرة تدينه وحكومته، سيضر بسمعة المحكمة الجنائية الدولية كمحكمة عادلة ونزيهة؟
وعلى رغم أن السؤال مرتبط بواجبات العبدالله الوظيفية التي تتضمّن الحفاظ على سمعة المحكمة، إلا أنه امتنع عن الإجابة وقال إن «المدعي العام هو الذي يحقق ويقدّم التهم والأدلة إلى القضاة. لذا، فإن الأسئلة المتعلقة بأسباب توجيه التهم ضد شخص من دون آخر، أو حول التقدّم المحرز في التحقيقات، يجب أن يتناولها المدعي العام».
وقد وجّهت «القوس» السؤال إلى مكتب المدعي العام من دون أن تحصل على أي جواب.