يتزامن استمرار تراجع قيمة العملة الوطنية في لبنان، وانهيار ما تبقّى من القطاع العام ومؤسسات الدولة، مع تزايد مظاهر الثراء في بعض أحياء العاصمة بيروت، وفي الأماكن السياحية والأسواق التجارية والمدارس والجامعات الخاصة.بينما الجامعة اللبنانية والمدارس الرسمية معطّلة، وفي حين يبحث أساتذتها عن وظيفة بديلة تمكّنهم من تسديد كلفة حاجاتهم الأساسية، تعجّ بعض الطُّرق بسيارات من أحدث طراز وتمتلئ المطاعم والمقاهي الفخمة بزبائن يستعرضون حجم ثرائهم ونجاحهم. يقولون إن كل هذا المال من «عرق جبينهم»، وقد جمعوه بفضل التجارة والشطارة والعمل الجدّي، ولا شك في ذلك. لكن، هل هناك فرق بين مشروع الإثراء والإثراء المشروع يا ترى؟
لنسلّم بداية بأنّ مراكمة الثروات، بغضّ النظر عمّا إذا كانت بطرائق مشروعة أو غير مشروعة، تتطلب الكثير من العمل الشاقّ والذكاء والمثابرة والوقت. فالأعمال التجارية القانونية مثلاً، تتطلب جهوداً كبيرة ونفساً طويلاً وتسويقاً صائباً وإدارة يومية لعمليات البيع والشراء. أما الأعمال التجارية الاحتيالية، فتتطلب كل ما ذُكر من أعمال إضافة إلى القدرة على اقتناص الفرص المناسبة للالتفاف على القانون ولتمرير الصفقات. كما تتطلب بعض الأعمال الاحتيالية تسديد أتعاب باهظة لمكاتب المحامين المعروفين، ورشوة كبار المسؤولين في الدولة واسترضاء التيارات والأحزاب النافذة. ولا يمكن تمييز الإثراء المشروع عن الإثراء الاحتيالي بسهولة، لأن التاجر الفاسد يستخدم الأعمال التجارية المشروعة للتغطية على أعماله الاحتيالية، ولأن الاحتيال والغش يُعدّان في بعض الأوساط الاجتماعية شطارة وتذاكياً مربحَيْن. وغالباً ما يجتمع التاجر الفاسد بالتاجر الصالح في الأماكن نفسها ويضيع «الشنكاش». ويبدو أن ذلك لا يزعج أحداً، لأن مشروع الإثراء يتقدّم على الإثراء المشروع، وطريقة صرف الأموال أولى من تحديد مصدرها.
فالاهتمام بالساعات الذهبية وخواتم الألماس والملابس الثمينة وبرنامج رحلات اليخوت الصيفيّة يتفوّق على الاهتمام بمصدر الأموال الباهظة التي تُصرف عليها. هكذا تتكوّن البيئة الحاضنة لإخفاء جرائم تبييض الأموال والإفلات من العقاب وحماية الفاسدين. هي بيئة حاضنة للتخلص من «أعباء» القطاع العام، حيث يفترض تحديد مصدر كل قرش يدخل إلى جيوب الوزراء والمديرين والموظفين، وحيث يرتكز الاهتمام على العمل الجماعي والمصلحة العامة، وحيث للعدالة الاجتماعية مكان.
يتيح مشروع الإثراء لبعض اللبنانيين أن يستمروا في حياتهم الطبقية «الطبيعية»، وأن يختاروا الجنسية التي تحلو لهم ويسافروا إلى حيث يشاؤون، ويعيشوا حياة جميلة من دون أن يشغل بالهم السؤال عن مصدر المال وكيفية جمعه وإذا كان قد هُرّب إلى الخارج أو من الخارج بطرائق ملتوية.
لن يتغيّر شيء في لبنان. ما دامت المصالح تتفوّق على المبادئ، وما دام الثراء بحدّ ذاته دليل النجاح حتى لو انهار كل شيء من حوله.