تبدو البيئة في لبنان حاضنة للانحراف والجريمة. في ظل التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية، والشلل القضائي ونقص الموارد الذي تعانيه وكالات إنفاذ القانون، تزداد مخاطر تصاعد معدلات الخطف مقابل فدية. وغالباً ما يكون الاختطاف جريمة يصعب التعامل معها، طالما أن الجناة يسيطرون على الضحية، وبالتالي هم قادرون على ردع الإجراءات الأمنية والعسكرية ضدهم. لذلك، تُعدّ «المرونة» مفتاح التحقيق الناجح في جرائم الاختطاف، ومن المفترض أن يمتلك القائمون على التحقيق القدرة على وضع الخطط أو تعديلها في غضون لحظات بناءً على مقتضيات الموقف. يعتمد اختيار استراتيجية الإدارة المناسبة للاستجابة للاختطاف على تقييم الدافع ونوع الحادث والديناميكيات التي تنبع من هذه العوامل. من الضروري والأخلاقي للإجراءات التي تُتّخذ لتحرير المخطوف، أن تكون، بقدر فعاليتها، مراعية للمعايير المهنية والأخلاقية أثناء التحقيق والملاحقة، لمنع إفلات الخاطفين من العقاب

في بيان للسفارة السعودية في بيروت عبر «تويتر»، قالت إنها تلقّت «بلاغاً من ذوي أحد المواطنين الذي فقد الاتصال به فجر يوم الأحد 8 ذو القعدة 1444 هجري، الموافق 28 مايو 2023». وأضافت إنها على تواصل مع السلطات الأمنية اللبنانية «على أعلى المستويات لكشف ملابسات اختفاء المواطن»، وفقاً للبيان الصادر في 29 أيار.

أرشيف (مروان طحطح)

وقد ساعدت البطاقة المصرفية العائدة لمشاري المطيري والتي استولى عليها الخاطفون في تحديد مكان وجود الضحية، بالإضافة إلى الرسالة النصية التي أُرسلت من هاتفه إلى ذويه للمطالبة بفدية قدرها 400 ألف دولار أميركي.
كان المطيري قد اختفى أثره على طريق مطار بيروت (حيث يعمل في إحدى شركات الطيران) خلال توجّهه إلى منزله في منطقة دوحة عرمون.
وتمكنت دورية من مديرية المخابرات من تحرير المخطوف السعودي بعد «عملية نوعية» على الحدود اللبنانية السورية، وأُوقف عدد من المتورطين في عملية الخطف، وفق ما أعلن الجيش اللبناني في بيان على «تويتر». وأضاف البيان «تنفّذ قوة من الجيش في حي الشراونة عمليات دهم منازل مطلوبين على علاقة بخطف السعودي مشاري المطيري، كما تقوم بدهم معمل كبتاغون عائد للمطلوبين. وكان بعض منهم قد أطلق النار منذ فترة باتجاه مركز عسكري ومنزل عائد لأحد العسكريين، ما أسفر عن اشتباك بينهم وبين الجيش من دون وقوع إصابات».

الصورة كالعادة.. نمطية
بعد انتشار خبر اختطاف المطيري، وُضعت الجريمة في إطار مذهبي مناطقي، ولا سيّما بعد ورود أخبار عن رصد إشارات من الهاتف المحمول العائد للضحية في الضاحية الجنوبية لبيروت. وقد جرى تداول منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي تحذّر من خطورة الجريمة على السياحة في لبنان وقدوم «الخليجيين» في الصيف. فيما استرسل البعض الآخر وحدّد الدوافع السياسية الكامنة وراء جريمة الخطف لضرب التأثيرات الإيجابية «الممكنة» للتحالفات الإقليمية على لبنان.
ومع التشديد على ضرورة النظر في كل الاحتمالات وفحص جميع الفرضيات، لا بد من التذكير بأن تحديد دوافع الجريمة يقع في صلب العمل القضائي، وهو جزء لا يتجزّأ من التحقيقات القائمة حالياً. فالتحقيقات لا تتحمل التبسيط، ولا سيّما أن البيئة الجنائية في لبنان تتسع يوماً بعد يوم مع تفاقم الأزمة الاقتصادية وانتشار الفقر وإنشاء عصابات عائلية إجرامية (راجع «القوس»، 22 تشرين الأول 2022، «متى تتحول الأسرة إلى عصابة؟»)، وازدياد العنف والانحراف وانتشار البطالة والتسرّب المدرسي (راجع «القوس»، 6 أيار 2023، «بيئة حاضنة للجريمة»).

لكلّ جريمة أثر
يُعدّ المكان الذي بدأت فيه جريمة الخطف أحد الخيوط الرئيسية التي يمكن أن تساعد المحققين، وذلك لإمكانية احتوائه على العديد من الأدلة والمعلومات المهمة التي يمكن استخدامها في التحقيق، بدءاً من الأدلة المادية، كآثار إطارات السيارات المطبوعة على الأرض، والمتعلقات الشخصية والحمض النووي وبصمات الأصابع، وأدلة الأثر الأخرى كالشعر والتربة وغيرها. ويليها تحليل البيانات من الأدلة الإلكترونية، مثل كاميرات المراقبة والصور المأخوذة من الموقع وتحديد إشارات وموقع الهاتف المحمول وتحليل سجل المكالمات لتحديد المشتبه فيهم وغيرها، بالإضافة إلى الاستجوابات وإفادات الشهود.

كيفية التحقيق الجنائي في جرائم الخطف
تستخدم قوى إنفاذ القانون المعلومات التي قدّمها ذوو المفقود للنظر في جميع خطوات التحقيق المناسبة والضرورية في ظل الظروف، لمحاولة تحديد مكانه. وكنا قد تناولنا سابقاً في المختبر الجنائي مراحل التحقيق بشكل دقيق (راجع «القوس»، 15 تشرين الأول 2022، «خرج ولم يعد: خطف أم هروب أم..؟»).
وقد يشمل تسلسل التحقيق النموذجي ما يأتي:
• البحث في عنوان منزل الشخص المفقود للتأكد من عدم وجوده، ولتحديد ما إذا كانت هناك أي معلومات أو أدلة يمكن أن تساعد في العثور عليه.
• البحث في المنطقة التي شوهد فيها الشخص آخر مرة (إذا كان مختلفاً عن عنوان منزله).
• التواصل مع المستشفيات المحلية.
• التواصل مع مزوّدي خدمات الهاتف المحمول والمؤسسات المالية ومراقبة حسابات وسائل التواصل الاجتماعي.
• عمليات التحقق من الهاتف المحمول والأجهزة التي يستخدمها الشخص المفقود ومراجعة لقطات من كاميرات المراقبة.
• مقابلات مع العائلة والأصدقاء والمعارف والزملاء.
• وأحياناً، تنسيق التغطية الإعلامية للتوعية أو المطالبة بالمعلومات.

استراتيجية إدارة الحالة
يعُدّ تحديد دوافع الخاطف، الخطوة الأولى لاختيار الاستراتيجية المناسبة لإدارة الحالة، وتختلف أسباب انخراط الجاني في الاختطاف، فقد يكون الدافع:
• «نفعياً Instrumental»، أي من أجل تحقيق نتائج ملموسة، مثل الحصول على المال أو لإبرام صفقة تبادل إطلاق سراح أشخاص معيّنين.
• «تعبيرياً Expressive»، يعني أن اختطاف الشخص المخطوف هو غاية في حد ذاته، لإيذائه أو لترهيب أشخاص آخرين أو لإظهار القوة على الشخص المخطوف.
يفضّل الجاني، في الاختطاف النفعي، بقاء الضحية على قيد الحياة، لأنه أمر ضروري لإمكانية حصوله على الفائدة المرجوّة


تأتي الخطوة الثانية لتحديد استراتيجية إدارة الحالة من خلال تقييم ديناميات الاختطاف واستخلاص درجة الخطر الذي يشكله الدافع للضحية المختطفة. في الاختطاف النفعي، يفضّل الجاني بقاء الضحية على قيد الحياة، لأنه أمر ضروري لإمكانية الحصول على الفائدة المرجوّة. كما تساعد عمليات الاختطاف النفعية على إجراء مفاوضات، لأن الخاطف يسعى إلى بعض الفوائد من السلطات مقابل العودة الآمنة للضحية.
من ناحية أخرى، تشكّل عمليات الاختطاف التعبيرية خطراً أكبر على الضحية، لأن إيذاء أو قتل الضحية قد يكون جزءاً من الغرض الأساسي المرجو من الاختطاف. أضف إلى ذلك، أن التفاوض ليس استراتيجية الإدارة المختارة للاختطاف التعبيري، لأن الخاطف لا يسعى إلى الحصول على نفوذ لكسب شيء من طرف ثالث، وهنا تتطلب عمليات الاختطاف هذه تدخلاً من قوى إنفاذ القانون.

ضحايا الخطف
يمكن أن يُظهر المختطفون والرهائن الناجون ردود فعل مضطربة، بما في ذلك الإنكار والخوف من تكرار وقوع الحادثة، وضعف في الذاكرة والصدمة والقلق والشعور بالذنب والاكتئاب والغضب والشعور بالعجز، بحسب جمعية علم النفس الأميركية. كما يمكن أن تنسحب هذه الردود على تفاعلات الضحية مع مجتمعها، مثل تجنّب الأسرة والأصدقاء والأنشطة.
ووفقاً لأبحاث عدة، يطوّر الناجون من الرهائن، غالباً، رابطة غير واعية مع خاطفيهم ويعانون من الحزن إذا تعرض خاطفوهم للأذى. قد يشعرون أيضاً بالذنب لتطوير هذه الرابطة، ويشار إليها عادة باسم «متلازمة ستوكهولم - Stockholm syndrome». كما قد يشعر الناجون من الرهائن بالذنب لبقائهم على قيد الحياة بينما توفيَ الآخرون. من المهم أن يدرك الناجون أن هذه ردود فعل بشرية معتادة.



رسّام.. جنائي
يُعدّ الرسّام الجنائي مصدراً قيّماً للمعلومات للقائمين على التحقيق وللإجراءات القانونية في جرائم الخطف. إذ يستخدم هؤلاء الخبراء مواهبهم الفنّية في الرسم، أو النحت، أو الرسم الرقمي لإعادة بناء الوجه وتقديم رسومات للمشتبه فيهم والأشخاص المفقودين والتقدم العمري لديهم. وللتميّز في دوره، من المفترض أن يتمتع الرسّام الجنائي، إضافة إلى الموهبة الفنية، بدرجة من المعرفة القانونية ومهارات إجراء المقابلات، فيستخدم الفن المركّب لتصوير المشتبه فيه بناءً على مقابلات مع شهود حيث يطرح الخبير سلسلة من الأسئلة للحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات، ثم يستخدم تلك المعلومات لإنشاء تمثيل مرئي للمشتبه فيه. فينشئ فناً مركّباً من خلال التركيز على جوانب محدّدة من التشريح البشري واحداً تلو الآخر، على سبيل المثال، العيون والأنف والفم وما إلى ذلك. يُستخدم رسم التقدم العمري لتحديد الأفراد الذين فُقِدوا قبل مدة طويلة، فتُحرَّر الصورة بطريقة تعكس التغييرات في المظهر مع مرور الوقت. كما يُستخدم تعديل الصورة لتصوير المشتبه فيهم الذين ربما تغيّرت ملامحهم منذ أن رأتهم الشرطة آخر مرة.