الرباط| حين يردّد الطاهر بن جلون هذه الأيام أنّ القصيدة ملاذ حقيقي، لا يجب أن يؤخذ كلامه هذا على محمل الاستعارة. فقد احتضن الشعر صاحب «ليلة القدر» بالفعل هذه المرة. بعد الحرب الشرسة التي شنّتها الصحافة الفرنسية عليه أخيراً، إثر اعتراضه على ترشيح رواية ميشال ويلبيك «الخريطة والإقليم» لجائزة «غونكور»، غادر الروائي المغربي كرسيه في «أكاديمية غونكور» موقتاً
، باتجاه خيمة القصيدة. خيمة رفع أوتادها «بيت الشعر في المغرب»، وسط «مسرح محمد الخامس» في الرباط، مساء الاثنين 13 كانون الأول (ديسمبر) الحالي، حيث تسلّم بن جلون «جائزة الأركانة العالمية للشعر» في دورتها الخامسة.
في العاصمة الفرنسية كانت تصريحات بن جلون نارية في وجه ويلبيك، المعروف بمواقفه العنصريّة تجاه العرب والقضيّة الفلسطينية. أنكر بن جلون على الروائي الفرنسي انتماءه إلى الأدب، مشيراً إلى أنّه مجرّد «نجم روك»، وأنّه ما كان ليقرأ روايته «الخريطة والإقليم»، لولا أنّ مسؤوليته في لجنة «أكاديمية غونكور» تُلزِمه بذلك. أما في المغرب، فقد تحوّل فوزه بـ«الأركانة» إلى محفزٍ للوشوشات في المجالس: كيف ينال من يلقِّبه الفرنسيون بـ«بلزاك العصر» أرفع جائزة شعرية مغربية؟ أما كان أولى لو عادت الجائزة إلى شاعر استثمر في القصيدة مجمل مساره الأدبي، ونسج حروف اسمه كاملة على نول القصيدة؟
لم يكن بن جلون يملك إجابات عن هذه الأسئلة. فهو عادة لا يجرؤ على تقديم نفسه بصفة الشاعر. لكن لجنة تحكيم هذه الدورة التي ترأسها الشاعر المغربي الكبير محمد السرغيني توجته بجائزتها، في مغامرة شعرية تحفَّظ عليها بعضهم همساً، فيما حيّا آخرون جرأتها. وبعيداً عن النقاش بشأن مدى صوابيّة هذا الخيار، يحسب لـ«بيت الشعر» أنّه أفسح المجال لتكريم الطاهر بن جلون، لأول مرة في المغرب. فالروائي المغربي الحاصل على «جائزة غونكور» عام 1987 عن روايته الشهيرة «ليلة القدر»، يبقى أكثر الأدباء المغاربة اقتناصاًً للجوائز العالمية، وترجمةً إلى اللغات الأجنبية (44 لغة)... إلا أن «الأركانة» هي أول جائزة يحصل عليها في بلده. أنصف المغرب بن جلون متأخراً، كأنّه فضل تكريمه على الصفة التي غادر بها البلاد للمرة الأولى باتجاه منفاه الفرنسي: صفة الشاعر.
لم تأتِ قصيدة بن جلون الأولى عن المرأة، وعيون الحبيبة، كما هي أغلب قصائد البدايات، بل جاءت عن الجرح والغضب والألم. كتب قصيدته الأولى «فجر الشواهد» أثناء اعتقاله في «ثكنة هرمومو» بين تموز (يوليو) 1966 وكانون الأول (ديسمبر) 1967. وسرعان ما احتضن عبد اللطيف اللعبي في «أنفاس» هذا الصوت الشعري الشاب، قبل أن يتطوع المناضل اليساري أبراهام السرفاتي لتقديم ديوانه الأول «رجال تحت كفن الصمت». وبقي الشاعر يواصل نشر قصائده في «أنفاس» بعد خروجه من السجن، وحتى عام 1971حين عُرِّبت مادة الفلسفة، ليختار المدرِّس الشاب الهجرة نهائياً إلى فرنسا...
في تلك السنة كتب بيانه الشعري الشهير «أكتب لكي لا يكون لي وجهٌ. أكتبُ لأقول الاختلاف»، وهو البيان الذي ذيّل به مجموعته الشعرية «ندوب الشمس». ثم توالت دواوين بن جلون على امتداد أربعة عقود: «حديث الجمل»، و«مجهولو الهوية»، و«أشجار اللوز من جروحهم تموت»، و«في غفلة عن الذكرى»، و«مارسيليا مثل صباحِ أرقٍ»، و«مُصابٌ بالصحراء»، و«صاعداً الرماد»، و«جِنين وقصائد أخرى».
لعلَّ صدور هذه الأعمال مجتمعة عام 2007 عن منشورات «غاليمار» الفرنسية، هو ما أعاد إلى الواجهة صوت الطاهر بن جلون الشعري. وكان محمد برادة أوّل من قرّب هذا الصوت من قراء الضاد إذ ترجم ديوانه «حديث الجمل» عام 1975، قبل أن يتصدى كاظم جهاد لترجمة كل من «صاعداً للرماد»، القصيدة الطويلة التي خصصها لحرب الخليج الأولى، و«مجهولو الهوية» الديوان الذي يحتفي بمجموعة من الشهداء الفلسطينيين. هذا المسار الشعري، إضافةً إلى التزام الطاهر بن جلون بالقضايا الوطنية، وارتباطه بالتراث الشعبي، وانحيازه إلى الشعر ليس في القصيدة فقط، بل في أعماله الروائية أيضاً... كلّها عناصر جعلت بن جلون جديراً بـ«الأركانة».
بدا الطاهر سعيداً بأول جائزة له في المغرب، وبأول تتويج له شاعراً. لأنّنا «نستشهد بالشعراء لا بالروائيين أو المؤرخين. نجعل منهم شهوداً حينما نردّد: «كما قال المتنبي»»، كما لاحظ في كلمته خلال حفل التكريم. بدا سعيداً أيضاً لأنّ تصفيق جمهور الشعر في «مسرح محمد الخامس»، وأغاني فرقة «ناس الغيوان» التي أحيت الحفلة، أنسياه معاركه مع الصحافة الفرنسية، مع روائيي فرنسا الجدد الذين لا يملكون من الرواية إلا صرعة الموضة الزائلة.


مغربي... بالفرنسيّة

أثناء تسليمه «جائزة الأركانة» للطاهر بن جلون، لفت رئيس لجنة التحكيم محمد السرغيني إلى «أنّ من الخطأ اعتبار الطاهر بن جلون كاتباً فرنكفونياً» (...) هو الذي حرص على أن يكون مغربياً حتى وهو يكتب باللغة الفرنسية، واستطاع التعبير بصدق وعمق عن المتخيل العربي والمغربي بلغة أخرى». وفي بيان فندت فيه أسباب منحها للجائزة، شددت لجنة التحكيم على هوية بن جلون المغاربية والعربيّة، فهو الذي «أنصتت قصيدتُه إلى الفضاء المغربي انطلاقاً من إعادة كتابة المدن المغربية شعريّاً». كذلك «عبرت كتابته الشعرية بالمتخيل المغربي والعربي إلى لغةٍ أخرى، بما جعلَ اللغة الفرنسية التي اختارها الطاهر بن جلون مادّة كتابته، تنطوي على ما هو مغربي، متيحة له حواراً ثقافيّاً منفتحاً». كذلك ذكّرت اللجنة بتصدي بن جلون للقضايا المصيرية، «وفي مُقدّمتها القضية الفلسطينية، التي تحضر في منجزه انطلاقاً من رصد فداحة الدّمار ومن إدماج الشهداء الفلسطينيين في البناء النصي».