القاهرة | الذين عاشوا من دون ضجيج ورحلوا بشجن وصمت، هم دائماً من يتركون خلفهم ذهولاً ودهشة في قلوب محبيهم. أولئك الذين يعيشون بيننا بأقل قدر من ذِكر كلمة «أنا» وأكثر كَمّ من ذِكر لفظ «أنتم»، هم بالفعل من يفضّلون زرع الطمأنينة في القلوب التي تعلّقت بسيرهم قبل المغادرة، مغادرة هذا العالم المؤقت إلى عالم الخلود، خلود الروح في سكونها وخلود السير في الأذهان بما نقشت أياديهم في الصخر من أعمال وحب وحلم جميل.
ونحن إذ نعيش أخيراً أجواء الفقد في الأوساط العامة، وإذ يتركنا هذا وذاك ممن صنعوا الفنون والذكرى لدينا، ها نحن نودّع أحد العباقرة قليلي الكلام، كثيري المعرفة والمحبة للإنسانية والإبداع.
رحل هاني المصري وكان الكثير منّا يظن أنه سيبقى ولو قليلاً، رحل تاركاً داخل محبيه أملاً ضائعاً في لقاء أجمع عليه من أصبحوا أصدقاء له في الآونة الأخيرة من خلال صفحته على فايسبوك.
تلك الصداقات الكثيرة التي وُلدت أخيراً بين المصري وعدد كبير من الشباب المنتمين لجيل الثمانينيات والتسعينيّات، ارتبطت ببداية مرضه ورحلة العلاج منه.

كان الفنان المصري الأول الذي عمل لدى استوديوات «ديزني»
فقد اكتشف فنّان «ديزني» المصريّ إصابته بسرطان الدم بعدما جاوز عامه الستّين، وبدأ في سرد حكاياته المثيرة بأسلوبه الشيّق ليقرأها آلاف المتابعين له ويعرفون من خلالها أن هناك رجلاً يدعى هاني المصري. هو حكّاء من الطراز الرفيع المتميّز، لديه الكثير من الحكايات والمعلومات، رجل بلحية بيضاء كثيفة يعلن للجميع بأنه قد قرر محاربة مرض السرطان والانتصار عليه. حربه كانت حرب مبدأ وليست حرب خلاص، كانت كلماته تنطق حروفها بكراهية هذا المرض اللعين، وإشفاقه على غير المقتدرين الذين يصابون به يوماً بعد يوم ولا حيلة لهم في قتاله سوى التصميم الذي قد يقتله الفقر، والإرادة التي قد يهزمها الملل.
هؤلاء الذين عرفوا هذا الرجل كحكّاء ورجل صاحب خبرة ومرض، عرفوا من خلال حكاياته لاحقاً بأنه كان الفنان المصري الأول الذي عمل لدى استوديوات «ديزني»، وأسهم بخطوطه في رسم طفولة ملايين البشر حول العالم منذ الثمانينيّات وحتى عام 2005، حين تقدّم باستقالته ليعود إلى وطنه الذي لطالما غازله بالكلمات والعادات والحكايات التي لا تنتهي.
وبعد معرفة تلك المعلومة بتفاصيلها من حكاياته المسلسلة عن رحلته مع «ديزني» التي بدأت منذ أن كان طالباً في المدرسة يهرب من مدرسته المنضبطة الصارمة مدعياً المرض كي لا يفوته أحدث أفلام «ديزني» في سينما «مترو» في وسط القاهرة، انتهاء إلى رجل يبلغ 54 عاماً يفضّل أن يعيش ما تبقى له من سنوات في بلده بعدما قضى عشرات السنين في هوليوود، عرفوا أيضاً أنه كان مصمماً للديكور في عدد من المسرحيات التي رسمت وصاغت ذكريات أجيال من المصريين والعرب. عمل كمهندس للديكور في مسرحيات شهيرة مثل «العيال كبرت» و»إنها حقاً عائلة محترمة».
وفي المسرحية الأخيرة (بطولة الراحل فؤاد المهندس) ابتكر المصري طريقة المسرح الدوّار ليسهل تغيير المشاهد من دون خروج ودخول قطع الديكور والممثلين وإغلاق ستار المسرح. بانتهاء المشهد، كانت خشبة المسرح تدور ليبدأ المشهد التالي مباشرة من دون فاصل أو توقف. أضف إلى ذلك تصميمه للبوستر الدعائي الشهير لمسرحية «شاهد ماشافش حاجة» لعادل إمام حين رسم إمام معصوب العينين بخلفية مظلمة كُتب أسفله اسم المسرحية بالخط العربي.
أما في مجال الإعلانات، فقد ابتكر شخصية «كيمو» التي قدّمت إعلانات الآيس كريم التي لا ينساها أي طفل مصري. وحتى الآن، ما زال منتجو السلعة نفسها يستخدمونها في الدعاية. وقد أدار دعاية وإعلان شركة «أمريكانا» ثم انفصل عنها لشؤون سياسية اختلف فيها مع الشريك طارق نور الذي فضّل الارتماء في أحضان النظام السياسي الذي كان يعارضه المصري، محتفظاً لنفسه بخلفيته الاشتراكية التي لم ترض عن نظام رجال الأعمال وقتها.
حارب هاني المرض الذي أتعبه وأعياه. كانت حربه مع السرطان لا مع الموت، لم يكن يخشى الموت بقدر ما كان يكره أن يهزمه المرض اللعين، وقد خاطر وقاوم وقرر إجراء عملية زرع النخاع. وبالفعل، نجحت الجراحة وبدأ تكوّن نخاع العظام الجديد خالياً من المرض. وهنا أعلن المصري انتصاره نهائياً على السرطان، وأثبت للناس أنه قادر على قهره وأثبت أيضاً أنه لا يخشى الموت. فقد وقّع إقراراً يمنع الأطباء من إطالة عمره إذا تعرّض لأي أزمة تستوجب بقاءه حياً تحت تأثير أجهزة الإنعاش بعدما أصابه العلاج بمضاعفات وقصور في عمل الكليتين وتراكم المياه على الرئتين. وقد سرد حالته بكل صراحة في رسالته الأخيرة إلى محبيه عبر فايسبوك، مذيّلاً رسالته بأنه قد لا يستطيع التواصل مرة أخرى من خلال تلك الصفحة، فإما أن يفاجئنا بمجيئه إلى مصر أو برحيله عن العالم. وأوصى الجميع بأن لا يحزنوا لفقده وأن يتذكروا قصصه المثيرة وأن يعملوا بكل ما تعلموه منه من أجل «مصر الوطن».
هذا هو من فقده الناس، هاني المصري الذي قرر أن يعيش مصرياً وإنساناً وينتصر لروحه على مرض لعين ويلقي محاضرته الأخيرة للجميع في قيمة الحياة وفلسفة الخلود، خلود السيرة والموقف والعمل. هذا هو هاني المصري لمن يرغبون في معرفته، فالوقت ليس متأخراً لمعرفة شخص قرر أن يشفى رغم مرضه وقرر أن يحيا رغم موته، فها أنت حيٌّ أيها الرجل.