تسقط الأصولية... يحيا الغرب!

كثيرون تلقفوا «مذكرات رندا الترانس»، بالابتسامة نفسها التي رافقت قبله «نانسي ليست كارل ماركس». المؤلف منشغل بشؤون الجندر... أم يواصل وداع (هجاء) العروبة؟

نجوان درويش
من الصعب قراءة «مذكرات رندا الترانس» (دار الساقي) بمعزل عن شخصية كاتبها حازم صاغية، والتيار الذي يمثله الآن، وصورة هذا الكاتب اللبناني كأحد رموز «الترانزية» السياسية. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إنّ «المذكرات» تخص حازم الترانس بقدر ما هي مذكرات «رندا الترانس»! صحيح أن القصة هي لرندا التي تخبرنا «المذكرات» أنها ولدت في الجزائر صبياً اسمه فؤاد، لعائلة أطاحت تأميمات الثورة الجزائرية أملاكها وعراقتها، وربّيت كشاب وعانت من إصرار العائلة والمجتمع على رجولتها وكابدت حتى «تحوّلت» جنسياً وأصبحت رندا.
لكن السرد هو، تقريباً، سرد حازم صاغية في مقالاته ونصوصه: البناء اللغوي (الثقافي) نفسه، وصوت (أيديولوجيا) الكاتب نفسه. صوت واحد على مدار 140 صفحة من القطع المتوسط، في غياب للحوار ومن دون أدنى جهد لتقمص رندا أو تمثيلها، كأنما العمل تنظير موارب للترانزية بأوسع مفاهيمها. وإن كانت المذكرات تبدأ بمرافعة لمصلحة رندا: «إذا كان من ذنب فلستُ أنا من ارتكب الذنب. لم أكن سوى جنين في الشهر الثالث حين تعرّضت إلى كمية من الأوستروجين تفوق ما تعرضت إليه من التيستوستيرون. والأطباء يقولون إن اختلالاً من هذا النوع ينتج بنتاً في شكل صبيّ، تماماً كما يخلق الاختلال المعاكس صبياً في هيئة بنت». فإن رندا سرعان ما ستتحدث بلغة حازم صاغية. ونحار في نسبة بعض الجمل: أهي جمل حازم أم جمل رندا: «لكن الجزائر كانت يومذاك فردوس الرجال وحدهم. فهي راحت تستعرض على نحو موسع كل ما أكرهه ويضجرني، لا سيما ثقافة الدم والجهاد والأبطال... فمثلما نظر إليّ هؤلاء بوصفي شيئاً، مجرّد شيء، بدا الكلام عن التحرير يلخّص العالم إلى أرقام يتوزعها القاتلون والمقتولون». وحين تجزل اللغة في بعض مواضع الكتاب، تكاد «رندا الترانس» تتحول إلى وضاح شرارة!

تقديم رندا في قالب شبه اكزوتيكي
هنا نجد أن الإنسانية التي تنطوي عليها قصة رندا قد وُرّطت، إلى حد كبير، في سياق حازم صاغية السياسي. إذ نجد الخلط واضحاً بين أزمة «الذكورية» و«الأصولية» العربية التي تعذّبت رندا بسبب ما تنطويان عليه من موقف مسبق من حالتها، وتجاذبات القوى السياسية ومصالحها، التي يبدو حازم أحد ممثليها. وإن كان يحسب لحازم جرأته في إنشاء كتاب لمصلحة رندا وطرح سؤال التحوّل الجنسي كسؤال إنساني ينبغي التعامل معه بجدية ومسؤولية، فإن ما يحسب عليه هو تقديم رندا في قالب شبه اكزوتيكي «يبدأ من العنوان الصارخ»، ويصب بالنتيجة في دعواه السياسية. وهو قالب، على أية حال، يذكر بظاهرة (موضة؟) «الكتابات الجنسية» المكتوبة أساساً من أجل الترجمة وراجت في المنطقة العربية في العقد الأخير. لا نقع في الكتاب على إشارة تفيد بأنه سيرة، فصاحبة السيرة لم تكن شخصية معروفة، وربما ستظنها فئة من القراء شخصية أدبية. فيما نجد على الغلاف صورة سنعرف لاحقاً أنها لرندا، ونقرأ اسم الكتاب بخط حازم صاغية وتوقيعه في ما يبدو، كأنما التوقيع الشخصي هنا يؤكد فرضية المضمر الحازمي في الحكاية الرندوية. سنتأكد من خارج الكتاب، أن الكتاب سيرة وأن صاحبته تعيش فعلاً في بيروت، حين تظهر في حفلة توقيع الكتاب وتشارك مع الكاتب في أحد البرامج الفضائية. في الخلاصة، نشعر أن رندا باتت بعد الكتاب ضحية مزدوجة: من جهة، هي ضحية مجتمع بطريركي محافظ، لا يقبل اختلافها، ولا يستطيع أن يفهمها، ولا يترفق بوضعها الخلقي/ الجيني الملتبس بين الذكورة والأنوثة... ومن الأخرى، هي ضحية كاتب يستعملها لغايات وأغراض في نفسه... كاتب أمّنته على قصتها، فتعامل معها ــــ هو الآخر ــــ بقدر من التسلّط الإيديولوجي والتعسّف الذكوري. جهامة وانقباض أسلوب حازم صاغية يبدوان مضادين لجهاد رندا في سبيل حقّها في الاكتمال كأنثى.
من الصعب قراءة «مذكرات رندا الترانس» من دون المقولات السياسية التي تشتمل عليها، لا سيما الموقف من المواجهة بين المشروع الغربي والمنطقة العربية. لا يسعنا إلا أن نفكّر بذلك ونحن نقرأ المقطع الأخير الذي يختم به حازم صاغية الكتاب مختبئاً خلف رندا: «لكن في أوروبا وبعض بلدان أوروبا الشمالية أستطيع أن أغيّر جنسي وأستبدله كليّاً بجنس ثان. ففي بلدي لا يعترفون بذلك، أما الحكومة البلجيكية فتمنحني جنسيتها باعتباري رندا المولودة في الجزائر. فهناك في أوروبا وحدها يموت فؤاد وتولد رندا، لكن أوروبا لا تزال بعيدة جداً».