قبل أشهر، قرأنا تأكيد الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار المصرية، زاهي حواس، أنّ مصر ستطلب رسمياً استعادة التمثال النصفي لنفرتيتي الموجود حالياً في برلين، متّهماً ألمانيا بـ«التدليس» (خديعة تؤدي إلى إيقاع المتعاقد في خطأ يدفعه إلى التعاقد). هذه التصريحات أعادتنا بالذاكرة إلى كتاب البريطاني رسل تشامبرلين «نهب: موروث السرقة» (تيمس وهدسون ــــ 1983)، وإلى صفحات محدّدة روى فيها كيف تمت سرقة تمثال نفرتيتي النصفي تحت أنظار مفتش الآثار الفرنسي آنذاك لوفيف.
وأرجعنا التأكيد والاتهام بالطبع إلى السياق كلّه الذي سُرقت فيه آثار البلدان المستعمرة، بما فيها بلدان الوطن العربي، وما زالت تُنهب وتُسرق، في العراق وفلسطين واليمن وغيرها.
تصريحات حواس ليست سوى شقّ صغير في هذا الجدار الواسع الذي لم يمنحه الباحثون العرب إلا اهتمامات موسمية ضئيلة، مع أنه يخفي وراءه ما هو أكثر من نهب الآثار: إنّه نهب الأرض ونهب التاريخ، والمثال أمامنا في فلسطين. إذ لم يغفل صنّاع اتفاقيات أوسلو إدراج بند يسمح لضابط إسرائيلي يدعى ميجن بالتنقيب عن الآثار في أراضي «الحكم الذاتي»، بل مصادرة ما يجده بين أيدي الفلسطينيين.
الموضوع واسع ومثير. ليس أوّله مطالبة اليونان باستعادة تماثيل الأكروبوليس الرخامية التي سرقها اللورد البريطاني إليجين في تسعينيات القرن الثامن عشر، ذلك الذي اشتق من اسمه مصطلح «الأليجينية» بمعنى السرقة، وليس آخره المطالبة المصرية المتكررة منذ الثلاثينيات باستعادة تمثال الملكة الجميلة نفرتيتي. وبما أن الكارثة عادت إلى الضوء بفعل المطالبة الأخيرة، لا بد من أن نروي قصة «التدليس» الألماني في مصر كما جاءت في كتاب «نهب». إذ إنّ التدليس ليس سوى الصفحة التالية بعد عملية غش وخداع، مارسها عالم آثار نقّب في تل العمارنة في المنيا في مصر.
لم يكن اسم مدير المعهد الألماني في القاهرة، لودفيج بورخارت، معروفاً خارج دوائر علماء الآثار المصرية، إلا أنه دخل التاريخ، تاريخ النهب والسلب، في عام 1912، حين نسج خدعة أفسدت منذ ذلك التاريخ العلاقات الألمانية ـــــ المصرية.
كان عالم الآثار هذا ينقِّب في «مكتبة» مدينة أثرية في تل العمارنة. وحسب الاتفاق المعقود مع الحكومة المصرية، جمعَ بورخارت الصناديق الممتلئة بالقطع المكتشفة في الموقع، وأطلع عليها موظفاً في مصلحة الآثار. كانت الآثار المكتشفة ـــــ وفق الاتفاق ـــــ تقسم مناصفة بين الحكومتين، باستثناء القطع التي لا تتوافر منها نسخ عدة. ثم تؤخذ حصة الألمان كي تعرض في برلين.
في عام 1923، ظهرت في المتحف الألماني فجأة منحوتة لا تضارعها أي منحوتة أخرى جمالاً. كانت كناية عن تمثال نصفي من الحجر الجيري للملكة نفرتيتي، زوجة الملك أخناتون. لم تكن المنحوتة عادية، وهي لا تشبه التماثيل الأخرى للملكة التي تفتقر إلى الملامح المميزة. أما تلك المنحوتة، فقد كانت ذات جمال غريب يتخطّى زمنه. في ألمانيا، أثار ظهور المنحوتة موجة من الاحتفاء، فيما اشتعل الغضب في القاهرة. وثار سؤال: «كيف أمكن أن تترك قطعة فريدة من هذا النوع الأرض المصرية؟». كان جواب بورخارت مزيجاً من اللامبالاة والإصرار على أنه عرض التمثال النصفي وبقية القطع على الموظفين المصريين، وسمحوا «بمرور» التمثال، وهكذا نقله إلى برلين كحق من حقوقه. وأثار هذا الجواب أسئلة إضافية: كيف يمكن أن يرتكب موظف خطأً من هذا النوع؟ وحتى مع افتراض حدوث هذا الخطأ، لماذا أخفي أمر التمثال وظل بعيداً عن الأعين طوال عقد كامل؟
حين البحث عن الموظف الذي سمح بمرور التمثال لدى تقسيم القطع الأثرية، تبيّن أنه لم يكن مصرياً، ولا حتى خبيراً في مجال الآثار، بل كان الفرنسي لوفيف المختص بقراءة البرديات. وحين سأله المحققون، كيف أعطى إذناً بخروج قطعة لا تقدّر بثمن، كان جوابه «إنه لا يستطيع تذكّر الحادثة»! وبعد ممارسة الضغط عليه، أقرّ بأنّه صدّق على نقل عدد كبير من الصناديق، لكنه لا يذكر تمثالاً نصفياً ملوناً، من الحجر الجيري، لزوجة أخناتون! وسادت شكوك بأنّ لوفيف هذا خضع للرشوة، من دون أن يتوافر أي دليل على ذلك.
هكذا، ظلت القضية معلّقةً طيلة أكثر من عشرين عاماً؛ تحتجّ الحكومة المصرية بين الآونة والأخرى، فيما تتهرّب الحكومة الألمانية من الموضوع. وظلّ تمثال نفرتيتي في مكانه في متحف برلين، كأحد أكثر مقتنياته جذباً للاهتمام.
خلال الحرب العالمية الثانية، وتحديداً في 18 نيسان (أبريل) 1945، كان وزير الدعاية الألماني جوزف غوبلز يسجّل في يومياته وقائع انهيار الرايخ الثالث، فكتب «لقد وقع كل ذهبنا الذي يصل إلى مئات الأطنان مع كنوزنا الفنية الهائلة في أيدي الأميركيين. الإهمال الإجرامي هو الذي سمح بوقوع أثمن ممتلكات الشعب الألماني في أيدي الأعداء».
اختفى تمثال نفرتيتي بعضاً من الوقت، قبل أن يعود إلى الظهور مع انتهاء الحرب، ويوضع في متحف الدولة البروسية. في ذلك الوقت، صارت ألمانيا قسمين: شرقية وغربية، وانفجر جدال بين القسمين حول أحقيّة كل منهما بامتلاك التمثال. وكان أن أصدرت ألمانيا الغربية وثيقة رسميّة بعنوان «لمن تعود ملكية نفرتيتي؟»، أكّدت فيه أحقيتها بالتمثال، من دون إشارة واحدة إلى مطالبة أصحابه الأصليين به، أي المصريين. وحين حاول المؤرخ فيليب فاندنبرغ في سبعينيات القرن العشرين جمع مادة موضوع سمّاه «سيرة أثرية ذاتية لنفرتيتي»، اصطدم بجدار مسدود. لقد بذل أبناء لودفيج بورخارت وأحفاده كل ما في وسعهم لمنعه من الوصول إلى حقيقة الصفقة. وفي عام 1978، كلفت صحيفة «دايزت» الألمانية جيرت فون باشنسكي تتبع خيوط القصة، فخلص إلى يقين بأنّ بورخارت كان واعياً تماماً بأنّ المصريين لن يسمحوا له بنقل التمثال النصفي من مصر، فاتخذ خطوات لتجنب عرضه على المفتشين...

أبطال أوسلو سمحوا لضابط إسرائيلي بالتنقيب عن الآثار في فلسطين

لكن، ما هي الخطوات التي اتبعها بورخارت للخروج بالتمثال من دون أن يلاحظه أحد؟ لقد ظلّ هذا الأمر لغزاً، إلى أن كشف عنه عالم آثار في إيران لرسل تشامبرلين، صاحب كتاب «نهب». قال هذا العالم إنّ بورخارت صنع نسخاً جصّية عدّة من التمثال، تاركاً نسخة منها في تل العمارنة، بينما هرّب الأصلية مع البقية. أي أنّه غطى تمثال نفرتيتي الأصلي بطبقة من الجصّ وأخفاه بهذه الطريقة. وقال في رسالته التي وجّهها إلى متحف برلين إنّ هناك شحنة في الطريق يجب معاملتها معاملة خاصة، وعدم عرضها أمام الجمهور تحت أي ظرف من الظروف. من جانبه، وفقاً للتقاليد الأكاديمية، قام بورخارت بتسجيل وجود التمثال بتعابير عادية، مع صورة فوتوغرافية سيئة عمداً، كي لا تظهر حقيقة القطعة.
وفي حديث مسجّل بتاريخ 18 أيار/ مايو 1918، قال مدير «متحف برلين» شافير، «اضطررتُ وزملائي إلى القول إنّه يتعذر عرض تمثال نفرتيتي لأنّنا لا نملك مساحة، وكنّا منزعجين بتقديم هذا السبب الواهي». وفي 1924، قال لودفيج بورخارت نفسه «خبأتُ التمثال أطول مدة في برلين»! وإثر ذلك، منعت السلطات المصرية بورخارت من التنقيب، وتقبّل هو الأمر رغم قسوته على عالم آثار وارتضاه ثمناً للتمثال المسروق.


مع سبق الإصرار

رفض وزير الدولة الألماني للشؤون الثقافية بيرند نويمان (الصورة) أمس المطالب المصرية باستعادة تمثال نفرتيتي، مؤكداً أنّ «التمثال المعروض في المتحف الجديد في «جزيرة المتاحف» في برلين تم الحصول عليه بطريقة قانونية عام 1913 في إطار تقسيم للآثار المكتشفة عبر «جمعية الشرق الألمانية»، وبعد ذلك عبر الدولة البروسية». وأكّد نويمان: «هذا الأمر مسجّل بوثائق. وبالتالي، فمطالبة مصر بأحقيّّّتها في استعادة نفرتيتي تفتقر إلى أيّ أساس».