جمال الغيطاني روائي العربية الأكبر الآن شخصية استثنائية، وحياته الشخصية تشكل رواية فاتنة فى الحب، والصراع مع الحياة وبها، وفي مغالبة المحن، وفي الجلدّ والصبر والدأب والعناد والذكاء والمناورة، والمرونة والصلابة والقدرة على احتواء ضربات الخصوم والكارهين لموهبته اللامعة، وشخصيته، وقدرته على فهم الحياة والناس والثقافة والفنون، والدولة والسلطة المتسلطة، ومهارة اللعب مع دسائس الصحافة، وأحن ومنافسات عديدين في الحياة الثقافية المصرية والعربية.
حياة تبدو كرواية لروايات متعددة داخلها، ذات أصوات متعددة الحضور والظلال والأزمات الوجودية. رواية حول سرد العصامي القاهري المولد ذي الأصول الصعيدية الذي استطاع مغالبة ضغوط الحياة القاسية الصعبة، والتي تبدو كدراما تراجيدية اغريقية في أهاب –شكل- معاصر.. حياة تقلبت بين تغيرات السياسة والثقافة والمعاني والرموز على نحو متسارع ومتلاحق ولاهث. كيف استطاع أن يواجه بعض الظروف التي بدت كحتميات، وكأنها قدريات تحول بين هذا الفتى القاهري وبين المعرفة الرفيعة والمكانة الثقافية المتميزة؟ وأن يواجهها في جسارة وإقدام وعناد ويكسرها ويتعامل معها ويتكيف كي يضع اسمه علماً على الرواية المصرية والعربية معاً، ويدخل عبر لغته الخاصة إلى عالم السرد الروائي العالمي عبر ترجمة عديد الأعمال الكبرى إلى الفرنسية وسواها من اللغات الكبرى.
أديب مصري وعربي ذو نزوع عالمي يتجلى من خلال سردياته وشخوصه وبشره الذين أبدعهم ويحملون همومهم الإنسانية البسيطة والمعقدة، ويتحولون إلى أصوات حاملة للقيم والإشكاليات والمصائر الوجودية للإنسان عامة أيا كانت تواريخه وانتماءاته وتحيزاته وتوجهاته وثقافته وحظوظه من حيث الخير والشر والجمال والقبح، والتداخل بين هذه المحركات الإنسانية. أنها رواية الروايات عن كاتب كبير ومقتدر ومقاتل في قلب معترك الأخطار والتواريخ والشخصيات والمؤسسات والرموز والسياسات في بلاده وفي عالمه العربى. شخص استثنائي، يحمل في تكوينه الطيبة واللطف والحنان والكرم والعذوبة في جانب انسانوي مفرط لأصدقائه ومحبيه وأسرته، ولمطلق الإنسان المصري، حيث يميل مع الخير واللطف حيثما يميلا، لا يبادر بنزاع أو شجار الآخرين، لديه قدرة خاصة على الاحتفاء بالمواهب والمبدعين، ويتحدث بإيجابية عنهم ويسعى لمعرفتهم وتقديمهم إلى جماعة القراء ويكتب عنهم. ويبدو في بعض الأحيان مقاتل شرس إذا تم تجاوز مكانته وقيمته، أو تعرض لهجوم أو تشويه في غير محله، من هنا تبدو الشراسة والعزيمة في رد هجوم الآخرين أو إساءاتهم. أنها آليات دفاعية ذاتية عن جمال الغيطاني الموهوب والمبدع الكبير إزاء جماعة ثقافية وأدبية مشغوفة بالنميمة والشراسة إزاء المواهب الحقيقية التي استطاعت أن تفرض حضورها عبر أعمالها الإبداعية وجهدها الشاق والمضني في إثبات ذاتها وموهبتها في مجتمع ثقافي يعاني من الفرص النادرة.
عصامية الغيطاني فريدة ومتميزة استطاع عبر موهبته ودأبه على التعلم والقراءة الواسعة العميقة في متون الثقافة المصرية والعربية والعالمية، أن يستوعب روحها وعمقها في التاريخ وتحولاتها، على نحو كرسه كمثقف كبير قبل أن يكون روائي متميز في سردياته وأعماله.
مكنت ثقافة الغيطاني وتكوينه الثقافي، وإطلالاته على التاريخ والناس والحجر والأساطير والرموز أن يكون واحداً من كبار الصحفيين المصريين والعرب، ويسرت له مهارات أسلوبية ولغوية متعددة في الكتابة الصحافية، كمراسل حربي في جبهات القتال، استطاع أن يحلل بعض الجوانب العسكرية والإنسانية المعقدة في تركيبة الجندي المصري في عمق وسلاسة أسلوبية ومهارة كتابية في جريدة "الأخبار". الحياة في الخنادق على جبهات القتال طرحت معها أسئلة الوطن والحياة والموت في وعي الغيطاني الكاتب والروائي البارز، ومن ثم تشكلت خبراته الصحفية من العمل الميداني، وكذلك من العمل سابقاً في قسم المعلومات، ومن ثم استطاع الجمع بين العمل المعرفي وبين العمل الميداني الخبري وفي مجال التحقيقات وكتابة التقارير الصحفية المتخصصة وهو ما أهله لرئاسة الصفحة الأدبية في "الأخبار"، ثم تأسيسه لواحدة من أهم التجارب الصحافية الثقافية المصرية، وهي جريدة "أخبار الأدب" التي استطاعت أن تملأ فراغاً كبيراً في الثقافة المصرية، في فترة تراجعت فيها المجلات الثقافية، وتراجع الحضور الثقافي المصري في الإقليم وارتحلت الكتابات المصرية الأدبية والنقدية والإبداعية وهاجرت إلى منابر في الإقليم العربي، لاسيما بيروت، والعراق، وصحف الخليج والسعودية، وإلى الصحافة العربية فى باريس ولندن.
استطاعت "أخبار الأدب" أن تكون إطلالة مصرية على الثقافات العربية ونافذة يطل منها المثقف والمبدع المصري على الآداب والثقافات العالمية، حيث قدم فيها الاتجاهات الجديدة في الشعر والقصة والرواية والنقد، ليس هذا فحسب بل قدم فيها الفنون التشكيلية والبصرية المصرية والعالمية ليدمج بين الإبداعات السردية، والبصرية معاً، لتتشكل بعض ذائقة القارئ المثقف. أهم ما في تجربة "أخبار الأدب" عديد الأمور منها:
1- اكتشاف جيل التسعينيات وما بعد وسروده المتميزة والإبداعية والمتغيرة ونظرته إلى الحياة، حيث سادت النزعة ما بعد الحداثية التي ركزت على المشهدية، وثورة الحواس والشهوانية، والولادة المتعثرة والصعبة للفرد في ظل تسلطية السياسة والقيم الجماعية والدينية السلفية والمحافظة، وسحق الإنسان في تفاصيل اليومي ومخاتلاته، وأكاذيبه، وإزدواجياته، وفي دوائر الانفصام داخل الشخصية ووجوهها المتعددة وتناقضاتها، وتوتراتها.. الخ. وجدّ هذا الجيل في "أخبار الأدب" ملاذاً لها في ظل غياب حركة نقدية نشطة تتابع وتقيم السرود الجديدة ولغتها المختلفة.
2- قدم الغيطاني عديد الكتابات العربية الجديدة، والترجمات عن اللغات العالمية ليتعرف عليها الجيل الجديد من الكتاب.
3- أبرز الغيطاني عديد الأسماء الشابة من المحررين المتخصصين في القضايا الثقافية، وبعضهم من المبدعين الذين ساهموا في اغناء السرد المصري والعربي، وبعضهم أصبح لامعاً ككتاب وصحفيين ثقافيين بارزين، وأعطى لهم مكانة ودوراً متميزاً.
من أبرز إسهامات جمال الغيطاني الثقافية هو اهتماماته بالتراث الأدبي العربي، وإشرافه على سلسلة عنيت بالتراث الأدبي العربي ونشره في مختلف أجناسه الأدبية، وعلى رأسها طبعة "بولاق" الشهيرة لألف ليلة وليلة وغيرها من الأعمال الشعرية، ومن متون وأصول التراث الصوفي وتجاربه وتجلياته وبحوره الروحية في الصعود والمعراج والحلول على مألوف تجارب الوجد الصوفي لدى كبار المتصوفة. هذا الإسهام الثقافي بالغ الأهمية من عديد الزوايا ومنها: تحيين هذا التراث وجعله معاصراً، بوصفها تجارب ثرية ولامعة على صعيد التجربة الأدبية، والنصوص الإبداعية، ومن ثم تنطوي على أصالة، واستمرارية حداثية في عمقها البعيد. إتاحة الفرصة لأجيال من الكتاب والمثقفين والقراء الإطلاع على هذه النصوص التراثية الهامة.
تكشف اختيارات جمال الغيطاني لنصوصه التراثية عن عمق المعرفة والإطلاع على عيون التراث العربي. يعود ذلك إلى أن إبحاره في هذه المتون والتجارب الحاملة لها هي التي شكلت أبرز معالم تجربته الأدبية ومشروعه السردي المفتوح وتحولاته، منذ عمله الأول المدهش أوراق شاب عاش منذ ألف عام، والزيني بركات.. الخ. استمد من عوالم العصر المملوكي وأجواءه ونسقه اللغوي وسروده، أقنعة لغوية وشخوصاً معاصرة تحمل همومها الوجودية والحياتية والإنسانية والسياسية حول الحرية والقمع والتسلط على نحو أعطى لأعماله فرادة وتميزاً بين مجايلية الذين تأثروا بما ترجم لأرنست هيمنغواي وبعض الأدب الغربي والروسي.
استطاع الغيطاني باقتدار أن يخرج من المرجع الروائي المحفوظي – نسبة إلى عميد الرواية العربية نجيب محفوظ- وسرده الذي أسس لشرعية الرواية في الأدب العربي.
رغم مخالطة الغيطاني لمحفوظ إلا أنه خرج عن دائرة أعماله الإبداعية ليؤسس عالمه الخاص، ويطوره. أخذ الغيطاني من محفوظ الدأب والنظام وصرامة العمل وجديته والوفاء لعمله الابداعي والعناية به، رغماً عن انشغالاته الصحافية. هذا هو درس محفوظ الكبير الذي استوعبه جمال الغيطاني ومارسه بجدية. من الموروث الصوفي وتجاربه المتعددة، أخذ الغيطاني تجارب العشق والوجد والفناء والمعراج والحلول، وشفافية اللغة وفلسفتها وغنائيتها دون إفراط. من هنا جاءت تجلياته تعبيراً عن رؤاه وتجربته ولغته الخاصة.
الغيطاني تجربته الوجودية مصادرها متعددة، على رأسها ولعه بالعمارة وموسيقاها في مختلف عصورها الفرعونية والرومانية والقبطية والإسلامية والحديثة، وعمارة ما بعد الحداثة.
بصيرته واستبصاره الجمالي والموسيقي- ذو الرهافة والشفافية والعمق والحساسية المفرطة- أعطياه القدرة على الإنصات إلى موسيقى العمارة والحجر والتكوين فى المنازل، والمساجد، والكنائس والأبنية. انصت الغيطاني إلى هذه القطع الموسيقية المجففة والمنسابة بين الأحجار وتشكيلاتها. من هنا سر ولعه بالجمالية وحواريها وأزقتها ومنازلها وفضاءاتها، وما وراءها من فلسفة كامنة في ما وراء الأحجار. جمال الغيطاني جبرتي القاهرة المدينة ما بعد الألفية، وتواريخها وتقلبات الزمن والبشر على فضاءاتها. هو كما سبق أن أسميته حارس الذاكرة والمدينة والظلال.. حارس ذاكرة مصر والتاريخ في مختلف عصوره، ومدنية القاهرة، والدولة الحديثة والجيش والبشر والبيروقراطية، وحارس الظلال، ومن ثم تملك ذاكرة بصرية يقظة وحادة، لكل الأمكنة والبشر وما ورائها يحفظها هي وما تحمله بمجرد النظرة والتأمل والسؤال.
ذاكرته البصرية ليست قصراً على مدينة القاهرة، وإنما الأماكن التي سافر إليها باريس، ونيويورك وشيكاغو، وقرطبه، وفاس، ومراكش، وبيروت وغيرها من المدن، تحفظ ذاكرته الأمكنة وخباياها وقصصها ورواياتها عن ظهر قلب كما يقال في الوصف الكلاسيكي العربي.
الغيطاني من أكثر التجارب الروائية العربية تفرداً فى خصوصياتها وإنسانيتها ومن ثم كان من أكثر الروائيين ترجمة وتوزيعاً فى اللغة الفرنسية ونشرت أعماله الهامة "الزيني بركات" و"التجليات" وغيرهما فى دار نشر Seuil. وهو ما يشير إلى الاهتمام الفرنسي والغربي بأعماله المتميزة فى إطار السرد العالمي والعربي والمصري.
الغيطاني يمتلك واحدة من أهم المكتبات العربية الخاصة، وفيها كنوز هامة، وبعض الكتب النادرة، وكذلك مكتبة موسيقية نادرة تحتوي على موسيقات عربية وغربية وآسيوية حيث موسيقات العالم التقليدية والشعبية، والحديثة، على نحو ندر أن تجده إلا في المكتبات العامة والمتخصصة في الموسيقى. كلها أدوات المثقف الكبير والموهوب.
جمال الغيطاني يمثل مشروعاً روائياً مصرياً وعربياً مفتوحاً ومتميزاً في تاريخ الرواية العربية المعاصرة، وهو مشروع عابر لزمنه ومستمر في المستقبل ومن ثم يمثل صوتاً فريداً من أصوات السرد العربي المعاصر. هو ذ ذائقة وفضاءات خاصة من الصعوبة بمكان تقليده أو استعارته أو تجاوزه من حيث طبيعة المشروع ولغته والإنجاز السردي.

* مستشار مركز الدراسات
السياسية والاستراتيجية في "الأهرام"