المسرحي اللبناني خصّ «الأخبار» بنصّ كتبه في هذه المناسبة الهادفة إلى إحياء فنون الفرجة حول العالم، والاحتفاء بها، ومراجعة دورها: «كيف» نعمل في المسرح اليوم؟ كيف نبدع في زمن التآكل السياسي والتلوّث الثقافي والكساد الاقتصادي والفساد الأخلاقي...؟
روجيه عساف *
(لم أعد أجيد التفكير بالمسرح (ولا بأيّ شيء آخر) بشكل خالص، تتراكب الأفكار وتتنضد، فلا تحضر فكرةٌ في ذهني المضطرب دون مثول تلقائيّ لفكرة أخرى غريبة عن موضوعها المباشر تأتي من بعيد مثل تيّار عميق في بحيرة شاطئيّة ضحلة). كل شيء يدعو في الظاهر إلى اعتبار العمل المسرحي حرفة بالية، بقية لحضارة ماضية. وفضلاً عن ذلك، لا يحظى المسرح بما تحظى به فنون اتباعية أخرى، لا يوجد مهووسون بالمسرح كما يوجد مهووسون بالأوبرا أو الباليه، جمهور متخصّص ومؤسّسات رعائية تحافظ على إدامة قاعات المسرح والعروض المسرحية. كأنّ الجميع يعترف بأن المسرح يحيا تلقائياً وفقاً لضرورة مباشرة، أو يموت تلقائياً عند فقدان هذه الضرورة. ألا يعني ذلك أن المسرح متحرّر من كل الرهون التي يخلفها التاريخ أو التقاليد أو الأعراف؟ أي إنه بالضرورة فنّ حيّ حاضر وملتصق بالإدراك الفوري للعالم، وإلا يصبح مهجوراًفي زاوية من هذا العالم، يُحصي الفلسطينيون أموات هذا اليوم، ويخسرون بعض الكروم من الزيتون وبعض النتف من الأحلام في ظلّ حائط العار الذي يشطب وجه الأرض المقدّسة، على مرأى من العرب المضطربي الخاطر أمام إفلاس المصارف الأميركية).
إنّ اهتمام الشباب بالمسرح كحيّز للتعبير شديد ومشبوب، بقدر ما نفورهم من المسرح التقليدي كبير وصريح. الجيل المسرحي الجديد موجود، يتباهى برفضه للوراثة، يلقي نظرة مختلفة على العالم، يستجوب العالم طارحاً أسئلته الخاصّة عليه. لا شكّ في أنّ خطوات جديدة تسعى إلى تدخّل ثقافي حقيقي ولا يجوز اعتبارها مجرّد خطوات اختبارية في هامشية الأعمال التجريبية. أبعد من جودة الأعمال أو سوئها ومن المتعة المتفاوتة التي توفّرها، نحن اليوم بأمسّ الحاجة إلى اكتشاف الرغبات المسرحية الحيوية التي تنبجس على طرف مؤسساتنا الثقافية، ونادراً ما تجتاز أبوابها. إنّها رغبات سريعة الزوال، وقد يمرّ إهمالها من دون أن ينتبه إليها أو يشعر بها أساطين الثقافة (الذين ينعون الثقافة ويندّدون بالانحطاط الراهن).
(بيروت، القدس، بغداد، ساراييفو... ألن تبقى ساحة تلتقي فيها الأديان والثقافات لا يهرّمها الطمّاعون، ويقابحها الفساد، ويفترسها أسياد العالم، فلا يسود فيها غير لغات العنف والعنصرية، وإخضاع المواهب الفردية والطاقات المنتجة وجميع مظاهر الثقافة للإصلاحات «العولمية» والترميم بواسطة المؤسّسات المانحة الدولية؟).
ليست المسألة في صراع الأجيال، ولا في ظهور حركة جديدة تتعارض مع المدارس القائمة والمتبعة. المسألة هي في دراية «كيف» نعمل في المسرح اليوم، كيف نتعامل مع التآكل السياسي، والتلوّث الثقافي، والمفاسد الأخلاقية، والكساد الاقتصادي... ونبدع؟ كيف نتواصل مع الجمهور في مدينة لا تتوارد الطرق فيها نحو الرحاب، ولا تلتقي أطرافها في ميدان المواطنة؟ السؤال الحقيقي يستهدف بالتحديد معنى المسرح، وموقعه «المتطفّل» في الخواء الثقافي الراهن. إنّ البحث الضروري يشقّ لنفسه سبيلاً في معزل عن سيطرة الإنهاك الثقافي الذي يختزل موطن الخيال بين هزيمة الثورة وكابوس الحروب الجديدة. لا قضيّة معيّنة ولا حتّى ادّعاء بطموح طليعي أو بإرادة تغيير. بل العكس، إنّ احتراس الشباب يشمل المفاهيم والاصطلاحات المربوطة بالجيل السابق المتعذر اقتلاعه. معظمهم مخيّبون ممّا أورثوا، يعانون من عدم ثبات شروط العمل، ينصبون مسرحهم خلسةً في الفسح التي يختلقونها أو يمنحها إياهم القدامى بتقتير. ويبدو لي أن تعبيراتهم المنثورة والمبعثرة، تحتوي على رغبات حيوية (ولو متناقضة) ترجو الاعتراف والمقابلة وتستوجب مواجهة صريحة مع اندحار المؤسسة الثقافية.
(بيروت عاصمة الكتاب فيما يلتهم الباطون فضاءها، وتملأ لغة الطائفية أماكن تخاطب الناس. يحتكر أجواءها جشعٌ لا يشبع وتبذيرٌ صفيق لا يحتشم. تخضع وسائل الإعلام لمن يمتلك القدرة المالية على استخدامها. يعمّ تذويب الديموقراطية في سوق الانتخابات، وحرّيّة التعبير في الارتشاء. هل من فُتحة لتسرّب الرغبات والأحلام؟).
هناك من يرفض الدخول في ما هو موجود. وهنالك من يرفض الموجود للولوج في ما هو جديد، ويطالب بحق التعبير عن الوجود. يفتح الشباب سجلّ الأسئلة، ويتجدّد معهم جنوننا اللازم والحيوي. إيماننا بأنّ المسرح هو فنّ عصري يخاطب الإنسان المعاصر. منهم من سينمو من دون أن يشيخ، ومنهم من سيشيخ من دون أن ينمو. كما حصل في السابق، وكما يحصل الآن يوماً بعد يوم، اختباراً تلو الاختبار... اليوم كلنا شباب، قليلو الاختبار وغير ناضجين، أمام هذا العالم الجديد المريع الذي يفقد صوابه وتتفرّق معانيه. اليوم ننتظر، أيضاً وأيضاً نعم، اللقاءات والنقاش والتعبير في مأمن من الاستلاب، ونعتصم في مسارحنا بأصواتنا وبحركة أجسادنا من الرعب الصامت والذعر الساكن. قد يكون صياحنا سخيفاً، وكدّنا مثيراً للسخرية. لا يقلقنا ذلك ولا يستوقفنا. إنما يرعبنا عدم اكتراث المستأثرين بالسلطة والموارد، ويذعرنا أن يتواطأ معهم أساطين الفكر والفهم.
(الفنّ الحقيقي هو الذي يجعل الحياة أجمل من الفنّ. الدين الحق هو الذي يعد الإنسان بجنّة كامنة داخل الإنسان).
الأمر منوط بالتجربة الثقافية على اعتبارها تجربة. التفاؤل الاحتمالي يتوقف على قابلية الرؤية لصورة الفتوّة المطمورة تحت سطوة المال والمصالح، واحترام الحيرة التي تطلق فينا نابض الأسئلة.

* آخر إصداراته «سيرة المسرح (1) ــــ جدول تاريخي للمسرحيين والمسرحيات» (دار الآداب)


أوغستو بوال: تلك الحقيقة المخبّأة



هذه السنة، كُلّف المسرحي البرازيلي أوغستو بوال، مؤسس «مسرح المقموعين»، بكتابة الرسالة التي ستُقرأ بكلّ اللغات، في كل المسارح والفضاءات الثقافيّة، لمناسبة اليوم العالمي للمسرح ـ 2009. هنا النصّ العربي للرسالة

تعيش المجتمعات الإنسانية كافة حالةً فرجويةً في حياتها اليومية، وتُنتج عروضاً في مناسباتها الخاصة، على اعتبار أنّ تلك الحالة الفرجوية هي شكل من أشكال التنظيم الاجتماعي.
حتى العلاقات الإنسانية تبدو ـــــ على غفلة منّا ـــــ مصمّمة على نحو مسرحي لجهة استخدام الفضاء، ولغة الجسد، واختيار العبارات، وتنويعات الصوت، علاوة على طرح الأفكار والمشاعر المتناقضة. كل شيء يدور على الخشبة، نحياه نحنُ على أرض الواقع: المسرح هو نحن.
ولا تقتصر العروض الفرجوية في حياتنا على حفلات الأعراس والمآتم، بل تمتدّ لتطال طقوساً يومية ألفناها إلى درجة إغفالها، تماماً كما هي الحال مع تبادل التحية الصباحية والقهوة وأشكال الحب الخجولة ونوبات الانفعال الجارفة والاجتماعات واللقاءات الدبلوماسية... كلّها من صنوف المسرح.
إحدى مهمات الفنّ الرئيسة هي جعل الناس أكثر إحساساً بعروض الحياة اليومية التي يُعتبر فيها المؤدّون متفرّجين أيضاً، وحيث يتوارى الحدّ الفاصل بين المكان والمسرح. نحن جميعاً فنانون. ومن خلال ممارسة المسرح، نتعلّم التقاط ما عجزنا عن رؤيته بسبب اعتيادنا إياه، رغم أنّه ساطع سطوع الشمس. كلّ ما يغدو مألوفاً يصبح غير مرئي: وهنا، يأتي المسرح ليلقي بقعة ضوء على منصّة الحياة اليومية.
لقد أدهشنا في أيلول (سبتمبر) الماضي ذلك الانكشاف المسرحي: نحن الذين خلنا أننا نعيش في عالم آمن رغم الحروب والمجازر وصنوف التعذيب التي تحدث فعلاً، لكن بعيداً عنّا... نحن الذين كنّا نعيش بأمان مع أموالنا المودعة في المصارف أو عند شركات محترمة في البورصة... استفقنا أخيراً لنجد أنّ الأموال أصبحت هباءً منثوراً، مجرد أشياء افتراضية لا وجود لها، مجرد اختراع وهمي ابتكره اقتصاديون غير وهميين طبعاً، وغير جديرين بالثقة.
كان كلّ شيء أشبه بعرض مسرحي رديء، حبكة سوداء حيث الرابحون قلّة والخاسرون كثر. شُغل مسؤلو الدول الغنية بعقد اجتماعات سرية بحثاً عن حلول سحرية... فيما بقينا نحن، ضحايا تلك القرارات، نمارس دور المتفرّج في المقاعد الخلفيّة.
قبل 20 سنة، أخرجت عرضاً بعنوان «فيدرا» لراسين في ريو دي جانيرو. كان ديكور المسرح فقيراً، اقتصر على جلود الأبقار المرمية على الأرض، وحولها قضبان الخيزران. يومها، اعتدتُ أن أخاطب الممثلين قبل كل عرض بالقول إنّ الحكاية التي كنّا نختلق أحداثها يوماً بعد آخر، قد انتهت، وإنّه لا يحق لأحد أن يكذب ما إن تعبر قدماه تلك الخيزرانات. المسرح هو تلك الحقيقة المخبّأة.
حين نعبر ظاهر الأشياء إلى بواطنها، سنجد أشخاصاً قامعين ومقموعين في كل المجتمعات والمجموعات الإثنية، وفي كل الطبقات والتصنيفات الاجتماعية. سنرى عالماً قاسياً وظالماً، وعلينا أن نسعى لإيجاد عالم بديل لأنّنا نعلم أن ذلك ممكن. الأمر كلّه رهنٌ بإرادتنا. وهذا العالم نبنيه باعتلائنا الخشبة، ومسرح حياتنا الخاصة أيضاً.
لنشارك في هذا العرض الذي يوشك أن يبدأ. ولدى عودتكم إلى منازلكم، مارسوا تمثيل عروضكم الخاصة مع أصدقائكم، لتدركوا تلك الأشياء التي لم تكونوا قادرين قبلاً على رؤيتها لمجرد أنّها واضحة وضوح الشمس. المسرح ليس مجرد حدث نعايشه، بل هو أسلوب حياة وطريقة عيش.
إنّنا جميعاً مؤدّون. فأن تكون مواطناً لا يعني مجرد العيش في كنف مجتمع، بل السعي لتغييره.


إضاءة على المناسبة