امتزجت ملامحها بالدين والأسطورة والشعر. خرجت من الحاضنة الشيعية، وصارت رمزاً من رموز الحداثة، فإذا بكتبها وملابسها تُحرق بعد إعدامها في عام 1852. كتاب لمجموعة مؤلفين، بعنوان «بكاء الطاهرة،» يعيد الاعتبار إلى أنثى حاولت تغيير وجه الشرق
سعد هادي
لا يقدّم كتاب «بكاء الطاهرة» (دار المدى) رسائل قرّة العين فقط، وهي الشخصية الإشكاليّة التي امتزجت ملامحها بالدين والأسطورة والشعر، وخرجت من الحاضنة الشيعية لتتحوّل إلى أنثى حالمة بتغيير وجه الشرق. بل إنّ الكتاب يقدّم عرضاً لحياتها وما كُتب عنها. هي امرأة عجيبة، حسب الكاتب العراقي علي الوردي، أسفرت عن وجهها وارتقت المنبر وخطبت وجادلت، فكان ذلك أول حدث من نوعه في تاريخ العراق وإيران، وربما في تاريخ الشرق كلّه لقرون عدة. وهي كما يراها مقدّم الكتاب.
، يوسف أفنان ثابت، رمزاً من رموز الحداثة الدينية حيناً ومثالاً رائعاً للمهووسين بفكرة الخلاص الدنيوي أحياناً. وفي ظروف أخرى، هي متحلّلة ملأت خيال رجالات الشرق مِمن لم يألفوا ارتفاع صوت الأنثى، وخصوصاً في المحافل الدينية. وهي أيضاً الشاعرة الداعية إلى الخلاص من إرث الديانات السابقة التي دفعت المؤمنين إلى أزمة روحية حين صرخت في مؤتمر «بدشت»، وقد كشفت عن وجهها وتزيّنت: إني أنا الكلمة التي ينطق بها القائم والتي يفر منها نقباء الأرض ونجباؤها.
ورغم أنّ العين كما عُرفت أو «زرين تاج» أي الشعر الذهبي وهو اسمها الحقيقي، أو «الطاهرة» كما سمّاها بهاء الله، لم تعش أكثر من 35 عاماً (أو أكثر بقليل، بسبب الاختلاف في تاريخ ولادتها، كما أنّ الوثائق الحكوميّة المتعلّقة بها أحرقت مثلما أُحرقت كتبها وملابسها في اليوم التالي لإعدامها عام 1852). إلا أنّها كانت من الأركان الأساسية في حركة الباب الشيرازي، وقد جمعت حولها عدداً من البابيين بعد ذهابها إلى كربلاء لتقنع أهالي المدينة الشيعيّة المقدسة ـــــ التي كانت قبل ذلك مركزاً حيوياً للشيخية والكشفية واحتضنت أيضاً طائفة من ألمع رجالات الحوزة ـــــ للانتماء إلى ما دعت إليه. وقد تعرّضت وهي المهووسة بكل ما هو جديد ومستحدث لأزمات نفسية عنيفة سعياً إلى عالم أكثر انفتاحاً يعطي للمرأة مكانة في صياغة التحولات الاجتماعية، أو على الأقل الاعتراف بوجودها ضمن فعاليات الحياة اليومية.
إنّ ارتباط الدعوة الدينية بالأنوثة على هذا النحو لم يكن أنموذجاً مقبولاً في المتخيّل الإسلامي العام، بل وُصف بأنّه جنون وتمرّد تنفرد به بعض الشخصيات التي تدّعي معرفة الاتصال بالسماء. كما أشير إلى قرة العين بأنّها استلهام لفكرة الشيطان الأنثى. وقد تولّدت جرأتها تلك تجاوباً مع جرأة علي محمد الشيرازي (الباب) بإعلان الانفصال عن الدين الإسلامي بعد إشهاره كتاب البيان وضربه لسلطة المراجع الدينية كافة. وكانت قرة العين، وهي المرأة الأولى التي آمنت بتعاليم الباب، قد أشارت إلى أنّ الوحي الذي نزل عليه نَسخ ما قبله من تعاليم، واختارها هو ضمن حوارييه الـ18 («حروف حي» وهم أول من آمنوا بحضرة الأعلى وهم جميعاً رجال ما عدا امرأة واحدة هي قرّة العين) بعد قراءته لخطاب مختوم أرسلته له. وكانت الوحيدة بين حروف حي التي لم تقابله. هذا وقد تدرّجت دعوة الشيرازي قبل إعدامه عام 1850 من ادّعائه أنّه النائب عن الإمام الغائب عام 1844 ثم بأنّه القائم الموعود نفسه عام 1849، وإعلانه بعد ذلك أنّه ظهور من الظهورات الإلهية. وسلكت هي بالمقابل دروباً مكانية وروحية شاقة في رحلة بحثها ودعوتها للفكرة الجديدة من قزوين إلى بغداد وكربلاء وأخيراً طهران «حيث أُعدمت»، ثم خروجها الدراماتيكي على دين الباب وتبشيرها بالحركة البهائية بعد مدة قضتها في قصر بهاء الله الذي ينتمي إلى الأرستقراطية الإيرانية. وقد أورد أحفادها روايات غير موثوقة عن إخبارها الشاه بأنّها تؤمن ببهاء الله بوصفه المظهر الإلهي، وأن الشاه أمرها بنشر الدين الجديد.
قد يبدو من المنطقي دراسة حياة قرة العين في إطار صراع الأفكار الدينية أو التحولات الاجتهادية المذهبية، منذ بدأت تختبئ وراء ستار لتصغي إلى درس والدها اليومي الملا محمد صالح، وصولاً إلى إعلان الانفصال الكامل عما هو سابق. وقد حوكمت وأعدمت من أجل دعوى أرادت إيصالها خرجت من أطراف الغلو الشيعي. لكن ينبغي ألا يؤثر ذلك على تقديرنا لدعوتها إلى تحرير المرأة أو ممارستها ذلك، فمجرد التفكير بنزع الحجاب في القرن التاسع عشر في إيران، ثم العراق، ضرب من ضروب الخيال. وهذا ما فعلته هي بكل هدوء وقصدية. كما أنّ إيمانها بفكرة المخلّص الواقعي المنبوذ بعيداً عن الروايات التاريخية يعبّر عن نزوعها إلى الاندماج بعالم الحداثة الذي كانت امتداداته قد وصلت إلى آفاق المدن الإيرانية البعيدة.
لذا، فإنّ نشر رسائلها التي كتبتها في أزمان مختلفة واستبعدها كل من كتبوا عنها، ربما انسجاماً مع إرادة القمع التي تعرضت لها الوثائق البابية في الأوساط الإسلامية... هذه النصوص المثقلة بالتراكيب البلاغية وبأساليب التعبير الشائعة آنذاك تقدّم صورةً عن طروحات قرة العين البابية، مثلما تقدّم صورةً عن امرأة استثنائية كرّست عقلها وقلبها لفكرة الخلاص الإلهي. لقد تكلّمت قرة العين، مستخدمة كل الاصطلاحات الممكنة، مستعينة بكل التأويلات المتاحة. لكن ذلك لم يقدّم صورة مسموحاً بها لتسويغ خروجها على الناموس الإسلامي، فطردت دينياً وجسدياً مع ما أثارته في نفوس أتباعها ومحاوريها وخصومها من تأمل وشكّ.