مطلع الشهر الماضي، مرّت الذكرى الـ 17 لرحيله. لكن القارئ لن يجد اليوم أثراً لصاحب «الحرام» في المكتبات... باستثناء مجموعة قصصيّة تنشر «للمرّة الأولى»، لدى المؤسسة الرسمية التي أهملت «أعماله الكاملة»!
محمد شعير
إنّه سؤال أخلاقي: كيف يمكن التصرف بما يتركه الفنان أو الأديب بعد رحيله من أوراق ورسائل شخصيّة، وأعمال غير مكتملة، وتجارب أولى منسية؟ النقّاد اختلفوا في الإجابة. بعضهم يرى أنّه ما دام الكاتب قد استقر في «مؤسسة الكتابة»، فلن يضيره نشر محاولاته الأولى أو غير المكتملة. وآخرون كانوا أكثر حسماً: لا يجوز نشر ما لم ينشره الكاتب في حياته!
إنّها قضية شائكة يطرحها نشر مجموعة قصصية جديدة ليوسف إدريس (1927 ــــ 1991) الذي احتفلت مصر والمؤسسات الثقافية الرسمية أخيراً بالذكرى الثمانين لميلاده. المجموعة تضمّ تسع قصص لم تنشر قبلاً في مجموعات عثرت عليها الباحثة عبير سلامة، وقدمتها للقارئ في كتاب «قصة مصرية جداً» صدر ضمن سلسلة «كتاب الثقافة الجديدة» عن «هيئة قصور الثقافة». إلا أنّ هذه المؤسسة الرسمية ما زالت تهمل نشر «الأعمال الكاملة» لإدريس، رغم أنّ أعماله لم تعد متوافرة الآن في السوق.
عبير سلامة رأت أنّ نشر هذه المحاولات، ليس «خيانة للمؤلف. إذ كيف ننتج معرفة دقيقة بظاهرة الإبداع والتباساتها المختلفة إذا اكتفينا بدراسة النصوص النهائية ولم نلتفت إلى النصوص المجاورة لها كالمسودات، والرسائل ودفاتر الملاحظات».
لكن ما الذي تكشف عنه هذه النصوص «المنسية» عندما تتجاور في كتاب؟ القصة التي حملت المجموعة اسمها (قصة مصرية جداً) لم تكن سوى مقالة نشرها إدريس في إحدى المجلات، ثم عدّها قصة، وهو أمر اعتاده كثيراً في سنواته الأخيرة، مشيراً إلى أنّ الإبداع يتجاوز فكرة «التأطير» أو «الشكل الأدبي المحدد» بقوانينه الصارمة. فعلَ إدريس ذلك عندما كتب قصته الشهيرة «أنا سلطان قانون الوجود» عن حادثة حقيقية في السيرك المصري، عندما هجم أسد على مدربه. وقد نشرها كمقال في جريدة «الأهرام» ثم عدّها «قصة» ونشرها في مجموعة بالعنوان ذاته. وهو أمر يمنحنا ــــ حسب تعبير سلامة ــــ «فرصة نادرة لاستكشاف مرحلة كمون الفكرة ثم تنشيطها، من جانب، والموازنة بين النص الرائد وأشكال تعديله في نصوص أخرى. تلك الموازنة التي تؤكّد أنّ النص لا يتصرف بوصفه أرشيف نصوص، بل إن علاقته بما سبقه تدميرية».
أمر آخر تكشف عنه هذه القصص، ربما دفع إدريس إلى إخفاء هذه القصص وعدم نشرها في مجموعاته المختلفة. إذ رأى أنّ التناص مع آخرين من الكتّاب الذين سبقوه، نقيصة، وحاول إخفاء أي تأثر بما سبقه، وخاصة بعدما نجح في لفت الأنظار إلى موهبته. ولكن هذه النصوص تكشف «اتفاقاً منجزه أحياناً، وخاصة في البدايات، مع منجز آخرين سبقوه، وخاصة في الأفكار والأساليب».
نسمة إدريس ابنة الراحل، وهي كاتبة قصة أيضاً تشير في تصديرها للكتاب إلى قضية أخرى تكشفها القصص التي تنتمي إلى مرحلة زمنيّة واحدة تسمّيها «مرحلة التساؤلات الملحة». إذ إنّ إدريس شُغل في هذه القصص «بمحاولة فك طلاسم أبجدية ذلك الشيء الغامض المسمّى الوجود، الموت...». وهذه الفكرة ظلت معه حتى قصته الأخيرة، ولكن بعدما تبلورت وتطورت على مدار مشواره الفني، وهذا التطور لا يمكن رصده إلا بالعودة إلى النصوص الأولى للكاتب.
قبل أيام من رحيله، قال إدريس إنّه على وشك الانتهاء من رواية جديدة (500 صفحة) عن تجربته مع الموت، ستكون أهم أعماله. رحلَ ولم تظهر الرواية. رجاء إدريس أرملة صاحب «أرخص ليالي» تقول: «لا وجود لهذه الرواية. هناك فصول لروايات لم يكملها، وقصص قصيرة، ومجموعة رسائل متبادلة بينه وبين القاص محمد المخزنجي». ولكن هل تنوي نشر ما ترك زوجها من مخطوطات؟ «قد أنشرها لاحقاً في كتاب».
المدهش أنّ أعمال إدريس غائبة. وليس غياب الأعمال الكاملة، وحده دليلاً على نسيان يوسف إدريس، بل هناك «المتحف» الذي اقترحته وزارة الثقافة بعد رحيله عام 1991، وقد كُلِّف محمد المخزنجي تقديم تصوّر له. لكنّ المخزنجي يبدي اندهاشه: «لا أعرف مصير المتحف ولا التصور الذي قدمته، رغم معرفتي بأن صداقة كانت تربط وزير الثقافة بيوسف إدريس».