في زمن «الانفتاح» المفترض، تعود الرقابة بقوّة إلى سوق السينما العربيّة. إنّها المحظورات نفسها، تتحكّم في وعي الأفراد وذائقتهم منذ عقود...
محمد رضا
تبدو الأجواء قاتمة هذه الأيام في العالم العربي، على جبهة الرقابة، أكثر من أي وقت مضى! في فترة زمنيّة قصيرة صدرت قرارات عدّة بمنع عدد من الأفلام حتّى أمكن التساؤل في زمن الاتصالات السريعة والإنترنت واليوتويوب: ما هو المسموح به بالنسبة إلى السلطات العربيّة الرسميّة غير العنف الأميركي والتهريج والإثارة الرخيصة؟ قد يكون مطلوباً التوقّف نقدياً عند شريط مثل «لا تعبث مع زوهان»، بسبب نظرته النمطية إلى العرب والإرهاب والتفوّق الإسرائيلي، لكن لمَ المنع؟ أليس من الأفضل فتح سجال راديكالي مع هذه الأعمال بعد تحذير الجمهور من سمومها؟... وفي كلّ الأحوال، فإن أفلاماً أخرى مُنعت في الفترة الأخيرة من دون مبرّر مقنع.
فيلم مورغن سبورلوك التسجيلي «أين في هذا العالم أسامة بن لادن؟» أخفق في الحصول على تراخيص لعرضه في الصالات العربية. كذلك مُنع «الجنس والمدينة» في أكثر من دولة عربية، لمحاذير تتعلّق بالأخلاقيات العامّة ـــ حسب معايير محافظة، من زمن آخر، لم يعد مقبولاً أن تتحكّم وحدها في الحركة الثقافيّة والفنيّة على امتداد رقعة العالم العربي!
وما سبق ليس سوى نموذج أوّليّ: فقد ارتأت الرقابة الكويتية ــــ التابعة لوزارة الإعلام ــــ مثلاً، أن تمنع عدداً من الأفلام المصرية لأسباب مختلفة. بين تلك الأفلام: «ليلة البيبي دول» و«الريس عمر حرب» و«حين ميسرة». وقبل ذلك، قامت بقطع مشاهد من فيلم يوسف شاهين وخالد يوسف «هي فوضى»، عندما عُرض تجارياً في صالاتها.
كل هذا ليس جديداً، بل متجدّداً. إذ إنّ الرقابة في العالم العربي نشطت منذ الخمسينيات، قبل أن نعرف مرحلة نسبيّة من الانفتاح هنا أو هناك. والآن يعود زمن التشنّج: منع الأفلام يتعلّق دوماً بالأخلاقيات العامّة أو المحظورات الدينية أو الاعتبارات السياسية. هذا «الثالوث المحرّم»، مطلوب اليوم مناقشته على مستوى واسع، في ضوء متغيّرات العصر والعالم، وأخذ نسبيته في عين الاعتبار، انطلاقاً من سؤال بديهي: من يحدّد رؤية الفرد، وكيف تتبلور متطلّبات المجتمع العربي؟.
والرقابة لا تقتصر كما هو معروف على العالم العربي، بل هي في أوج نشاطها في إيران وعموم أفريقيا وبعض دول آسيا. أما في الغرب، فلا يُمنع فيلم من العرض، إلا نادراً وبقرار من المحكمة، إذ تخضع قواعد اللعبة لعدد من الركائز والمبادئ وأكثرها قدسيّة: حريّة التعبير.
طبعاً هناك أشكال مموّهة كثيرة من الرقابة غير المباشرة، على مستوى الإنتاج، والترويج، والتوزيع! لكن في الغرب، نادراً ما نسمع بسحب فيلم من العروض، أو بقصّ بعض مشاهده، لأسباب أخلاقية سياسية أو دينيّة. قد تقوم شركة الإنتاج أو التوزيع بسحب الفيلم، كما حدث حين قرر المنتج والمخرج العربي الراحل مصطفى العقاد سحب فيلمه المهم «الرسالة» من العروض الأميركية، بعد تظاهرات نظّمتها جمعيات إسلامية (معظمها أفرو ــــ أميركية).
قد يُمنع الفيلم إذا تدخّلت المحكمة لإيقافه، وذلك بسبب نزاعات معيّنة بين أعضاء فريق العمل أو إذا ثبتت تهم قدح وذم وتشهير ضدّ العمل. ما عدا ذلك، فإن القاعدة الغربيّة الأولى هي مصلحة المشاهد، وحقّه أن يطّلع على كل شيء ويختار ما يحب وما لا ينسجم مع ذوقه أو قناعاته. المعايير الرقابيّة تقتصر هناك على حماية الناشئة بإشراف مؤسسات تابعة للحكومة، تحدِّد الحدّ العمري الأدنى لجمهور كلّ فيلم حسب مضمونه. ذلك لا يمنع وجود ردود فعل متطرّفة من جانب فئة من الجمهور، على هذا الفيلم أو ذاك. إذ سبق أن تعرّضت صالات فرنسية وإيطالية وبلجيكية للحرق من جماعات دينية متطرّفة. لكن القاعدة تبقى حريّة التعبير... واليوم بات الموضوع مطروحاً بقوّة على السلطات العربيّة، وخصوصاً تلك التي تدّعي الليبراليّة والانفتاح، أو تراهن سياسياً على الغرب، بل لنقل على المصالح الاستراتيجيّة الغربيّة... غالباً على حساب شعوبها ومصالح الفرد العربي، وحقّه في العيش الكريم والتنمية والعدالة والحريّة..