ابراهيم توتونجي«باكراً تعلّمت أنّه حين يجيد الصبي الكلام، يكافئونه بديوان ومدينة». أنا اليوم من دون محمود درويش وسمير قصير، لا أعرف كيف أحب بيروت. على أبواب المدينة، وللمرة المليون، أكرر: هل بيروت مدينتي؟ منذ 48 ساعة فقط، «تبنّيت» برلين مدينتي، وسرتُ في الـ«الكسندربلاتز». لعلّي سرتُ في شوارع مماثلة في القاهرة وفيينا قبلاً. لا أستطيع الحسم حين تتعلّق الأسئلة بالمدن. لكن الفلسطينيَّين ـ الشاعر والمؤرخ ـ علّماني، أنّ بيروت لا يمكن إدراجها على لوائح «المدن». علّماني كيف تسكن المدينة داخلنا وتساكننا في الرحم. نُخلق، فلا تنادينا إلى الخارج، بل إلى أعماقنا. تمدّ لنا يدها لنغوص في حنايا النفس ودهاليز الاشتهاء. ألم أحلمْ بها لأوّل مرة منذ 20 سنة؟ تلك الليلة، كنت في قريتي أتخيّل كيف يكون الحب بلغة بيروت، أتخيّل الرصيف والبنت والسينما. وكان معي ديوان محمود درويش، كوفئت به في المدرسة لأنني أجدت إلقاء قصيدة «بيروت». يومها، تخلّيت عن نازك الملائكة وقرّرت أنّ درويش شاعري المفضل، وأنّه سيأتي يوم أفهم الكلمات المنصوصة في الديوان. ثم اجتمعنا بعد سنوات، أنا والشاعر والمدينة والديوان، في الملعب البلدي، وانتظرتُ قصيدتي، وولجتُ إلى الرحم ولم أخرج. جعلني الشاعر عالقاً في بيروت «مدينتنا» التي أحرقناها، و«نجمتنا» التي أضعناها. وبقيتُ كما المسحور بعقدة ذنب، مغروم بضحية لم أشارك في قتلها. ورّطني بشغف «هولوكوستي» تجاه بيروت. حتى اليوم، لا تزال تقفز إليّ من دواوين الشاعر الفلسطيني. في الحنين إلى فلسطين، أحبّ بيروت أكثر. ففي الحكاية القديمة الجميلة، لا يزال الصبي يعتقد أنّ حسن الكلام يؤدي إلى ديوان محمود درويش وبيروت. وهو، أنا، لم أتوقف يوماً عن حب... حسن الكلام.