الفن حياة، و«الفنون» حياتنا... هكذا نريدها، وهكذا نراها.ليس في حكايتنا شهرزاد ولا شهريار... إنها متعة الحكي الذي فيه يحكي من يسمع، ويسمع من يحكي.
وليس في كُوشانِنا لحظةُ ميلادٍ ثابتة، فالذي يُعلن بداياتِه على الدوامِ لا يُعلنُ إطلاقاً موعدَ وُصولهِ، أو احتمالاتِ الوُصول، إنه يبقى في الرقص مُحنجِلاً، مهما حَلَّق، ويتقافزَ على طَرفِ المسرحِ مُختالاً مهما أوغَلَ في العُمق...

نسيرُ في خطٍ حياتيٍّ دائري نكتشفُ فيه أننا نبدأ كُلَّما ظَنَنَّا أننا قد وَصَلنا، أو شارَفنا على الوصول. ولا يعني هذا السيرُ دَوَرَاناً في المكان، أو مُراوَحةً في الموقع، بل يُشير الى غيابِ الرضى الذاتي، واجتذابِ القلق، واجتنابِ الطمأنينة، خشيةَ جَهلِ المسافةِ، أو نُكوصِ السيرِ، أو إِملاقِ الخيالِ، أو إسرافِ القناعة.
في كُلِّ اعتلاءٍ للمسرح، نُغنّي كما لم نُغَنِّ من قبل، ونرقص كما لم نرقص يوماً ما، ونُحَلِّق كما لم ُنحَلِّق أبداً، ونظلُّ نبحثُ عن مزيد، ونعيشُ حالاتٍ مُتواترة- جماعية وفردية- من ذُهُولِ التَّوالُدِ في دَورَةٍ لا تقطَعُ ولا تنقَطِع، ودَهشَةِ الإنبِناء في سياق متعَرِّج أمواجُه لا تستكين، ورعشةِ الانتشاءِ في ذُروة المعاني اللذيذة، ووَمضةِ الاستبصارِ في أتون البحثِ الدؤوبِ عن مُعتركاتٍ فسيحة، ورَشفَةِ الاستسقاءِ في غَمرة غيثِ الاسئلةِ المُتراكمة.
حُلمُ اليقظةِ الذي نسَبحُ فيه هو الواقع المتجلّي بسحرِهِ وشَغَفِه وانحناءاتِه وصلابةِ عودِه وانشدادِ أوتارِه. هو الواقع المتحقِّقُ بمعاييرَ مُستَمدَّةٍ من الذاتِ في غمرة تحَقُّقِها، وبإيقاعٍ داخلي مُنضبِطٍ وَمُتَّسِق، بقدر ما هو مرتجِلٌ ومرتحلٌ ومجازف..
أسهَبنا في الحديث عن مُعادلة الأنا والنحن، والذات والجماعة، خلال الممارسةِ الإبداعية، ولم نعُد نُحاوِلُ تفكيك الشيفرا، فقد اختصرت التجربة كل كلام، واقتضبت كل قول.
تَعَلَّمنا أنه فنُّ الرقص في معمعان التعلُّم، فنُّ الحياة في غمرة الابتِداع.. تَعلَّمنا من الهفوات والغَفَوات، مثل تَعلُّمِنا من اليقظةِ والانبعاث، ومن المُنحدَرات والمُنزَلقاتِ مثل تَعلُّمِنا من الاعتلاءِ والصعود، ومن التعثِّر والتلكُؤ مثل تَعلُّمِنا من الإقدامِ والمبادأة، ومن التقتيرِ والتبخيسِ مثل تَعلُّمِنا من التقديرِ والتثمين، ومن الاخفاقِ والتراجُعِ مثل تَعلُّمِنا من الانجازِ والتحقُّق، ومن التهميشِ والاقصاءِ مثل تَعلُّمِنا من التصدُّر والحَفاوة.
التجربة بِرُمَّتها، فِعلٌ لَحوحٌ وحثيثٌ ومُثابر، نتخطى في أتونِهِ طَورَ الابداعِ المُقاوم الذي (يحافظ على، ويدافع عن، ويحمي من، ويتمسك بـ ، ويحِنُّ إلى، ويتمترس في ...) الى الإبداع التحرري الذي (يُبادِئ، ويجازف، ويقتحم، ويتجاوز، وينتفِضُ، ويُدهِش، ويتمرد، ويصدُم، ويشتبِك، ويَكسِر، ويقطَع...) فاندرجنا في سياقٍ مفتوحٍ، يتحرَّر فيه الجسد والخيالُ والمعنى والشكلُ والضميرُ والوجدانُ تحرراً شاملاً من إسار التقليدي، وهيمَنة المحافظ، وسَطوَةِ الكابح، وفَداحةِ القهر، ورَتابةِ البداهة ، وضَجَر الثبات.
في مسار مُتعَرِّجٍ ومُكابِد، خُضنا الحياةَ بتفاصيلها، على اعتبار أن الابداع ليس تجربةً أدائيةً مسرحيةً باردة، بل انغماسٌ انسانيٌ في الكامنِ والظاهر، والعادي والاستثنائي. وانعجَنَت خميرتُنا في مُختَبرٍ دَفَّاق، وورشةٍ مفتوحة، ورشة تجاوزيةٍ متخمةٍ بالابتكار والخلق، واختباريةٍ تنشغلُ بالتجريب والمِراس، وحواريةٍ مكثفةِ التأمُّل والاستِكناه، وسِجاليةٍ مُترعةٍ باستبطانِ خوافي العقلِ والوِجدان، وسرديِّةٍ منهمكةٍ بكَسر ِسياقاتِ البداهةِ والبلادة.
لسنا مجموعةٌ من راقصين وراقصاتٍ نُعبِّر عن أنفسِنا بأداءٍ فني على خشبةِ المسرحِ فقط، بل نحنُ تعبيرٌ حيٌّ ومتدفقٌّ عن اختلاجاتٍ ومقارباتٍ ورُؤىً ومواقفَ وسجالات، تطرَحُ الاسئلةِ وتُثير القضايا وتناقش المسائلَ في سياقٍ إبداعي إنساني تفصيلي، وتُعبِّرُ عن رأيها في التطبيع الثقافي، والتمويل، وعلاقة المثقف بالسلطة، والتبعية الثقافية، والسياسة الثقافية، والوطنية الفلسطينية، والتطور الطبيعي للكيانات الفنية، والعلاقة بين الذات والجماعة في الابداع، والتسليع، والتسامي، وحرية الإبداع، والتنوع الثقافي، والتطوع والاحتراف في العمل الفني، وغيرها من القضايا والاشكاليات. نخوض غمارها نظرياً وعملياً، ونُبدي للأيامِ ما قد يكونُ مجهولاً عن تجربةٍ لم تُخِفها لِبُرهةٍ جلافةُ وحشٍ كاسرٍ (غريب) ظنَّ أنهُ يمتلكُ سِرَّ وجودِ الآخرين وبقائهم. ولم تُخفِها عن الانظار ِللحظةٍ سذاجةُ وَهمٍ (قريب) اعتقد انه يقتني مفتاح الأضواءِ والحضور والشرعية.
في حِكايتنا، لا ينامُ شهريار، ولا تكفُّ شهرزاد عن الكلام... الحكايةُ لا تنتهي، فنحن الذين نكتُبُها ونحكيها ونسمعُها ونتشوَّق الى نهايتها، ثم نعودُ الى استيلادِها، وَبَسطِ استِهلالاتِها، وصياغةِ حَبكاتِها الشائِقةِ من جديد.
كانت ليلةُ الخامسِ من آذار ليلةً من ليالي الحكاية الطويلة، لمَعَت فيها التداعياتُ، وتسلَّلت نوستالجيا الأيام الخوالي، وفَاحَت ترانيمُ الغزل الشفيف، وتوَشَّحتِ القلوب بمناديل الدفء، وأجهَشَت العيونُ بدموعٍ فشلت في الانحِباس عن خدِّ الشمس، وانطلقت الزغاريدُ من قلوبٍ عجزت عن ضبطِ النبضِ العادي.
في ليلة الخامس من آذار، قذفنا صُنارتنا في بحر الحياة المتدفق، واستردَدنا شمسَ مرج ابن عامر، ورقصنا للحرية على وميض السيف، وزغردت كل نساء الارض، واطلقت الشبابة شرار الحياة على إيقاع افراح الوادي، وأشعلت خضرة مشاعل الزفة من الناقورة حتى تل العاصور، واندلع السامر حتى السماء.
في ليلةِ الخامس من آذار كان المشهدُ انصهارياً مرَكَّبا يحكي عن تجربةٍ بديعةٍ خلَّاقة، انكَشفت رموزُها وتجريداتُها وحيثياتها المكتوبةُ وغيرُ المكتوبة، والمدرَكَةُ والمُضمَرة، في تراكيبَ مُدمَجة، انسَكَبت عُصارتُها في لحظةٍ قشيبةٍ من الزمان، لا فرق فيها بين مُدَرَّجٍ وخشبة، ولا حاجزَ بين جمهورٍ وراقصين، ولا فاصلَ بين أزمنةٍ وأجيالٍ وتعاقُبات، فصارت اللحظةُ ميقاتُ الكلّ، وصارَ المكانُ مدى الجميع، وحَلَّقَت سابحةً في علياءِ المجدِ أسرابٌ مِن وَهَج، فضاؤها مسرحٌ صغير، وميدانُها خشبةٌ ضئيلة...
لم تَكُن هذه الليلةُ، ليلةً من العمر، إنها العُمرُ كُلُّه...

*في الذكرى السادسة والثلاثين لتحليق فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية.