انتهى اللقاء وتوجهنا الى «مسرح الجميزة». في الطريق، كانت الصور تتوالى تباعاً من دون ترتيبٍ. صورٌ وأفكار عالقة بين رأسين ورصيف: «هنا كنت طفلاً حين أرسلني والدي لأهرب الطعام لثلاثة شيوعيين كان يخبئهم عند خالتي. كان منزلها مؤلفاً من ثلاث طبقات. على تلك الحافة، كان سور بيروت القديم. كان إيجار منزلي لا يتعدى ٣٧ دولاراً. هزيمة الـ٦٧. جيوش تنهزم ومسرحيون ينتعشون على الخشبة، يتوحدون حول قضية. جدلٌ بيزنطي بين بريشت وتشيخوف. بين آسخيلوس ويوريبيديس». لم تكن المسافة التي تفصلنا عن خشبة «الجميزة» كافية لشريط الذاكرة الذي يعيده جلال خوري (1934) مراراً وتكراراً كما لو أنه نفحة يعالج بها نفسه من سأم اللحظة الآنية.
هل ما زال جلال خوري «في انتظار زمن المسرح»، هو الذي ذيّل مقدمة نصه الأخير «خدني بحلمك مستر فرويد» بجملة مارون النقاش التي قالها قبيل وفاته: «إن دوام هذا الفن في بلادنا هو ضرب من المحال». يرددها خوري. يحاول أن يقنع الآخر بانحلال المسرح واضمحلاله أو بعدم وجود المسرح العربي الا بصيغة ناسخة للغرب.
لكنه للمفارقة ما زال يؤلف وينشر ويخرج أعمالاً، ويحتدم في النقاشات ويستحضر أحاديث مع عظماء رحلوا. يضع تاريخ المسرح تحت مجهره: يباشر بتشريح الجثة. يرسم مسرح الجريمة: جريمة موت المسرح في هذه البقعة من العالم في سياق جغرافي سياسي ديني روحاني يضع الغرب مهيمناً على الشرق ويصفو بالطقوس المسرحية الخاصة بالشرق الأقصى (مسرح النو الياباني، الكاتاكالي...).
تلك الجثة التي أماتها خوري للتو، يعيد إحياءها من دون أن يدري: في كل لحظة يحتدّ فيها لزمن بريشت أو غيره، في كل لحظة يعود فيها الى تساؤلات عصت عليها الإجابات الحاسمة: هل العرض هو ما بعد المسرح أو فقط ما يجري على خشبة المسرح؟ كان يعيد إحياء ما أماته حين ساءل مفهوم انتماء المسرح بين خصوصية الهوية وعالمية الفعل المسرحي، مستشهداً بعدد من النصوص العريقة التي اتضح أنها منقولة ومنسوخة وبالتالي يصعب تحديد هوية واحدة لنص «البخيل» لموليير أو كاتب واحد لـ «فاوست» على سبيل المثال.

العرض نقدي اجتماعي لاذع قدمه للمرة الاولى عام 1988

إذا مات المسرح، فلماذا تلك الضرورة لطرح كل تلك الأسئلة الوجودية حوله والسعي لتقديم إجابات متى تيسر؟ هل فعلاً مات المسرح؟ أو أنه لم يولد أصلاً؟
ربما توقف المسرح عند جلال خوري في لحظة فاصلة اعتبرها كثيرون أنها أوج المسرح اللبناني في مرحلة الستينيات، وتحديداً حين أدت النكسة إلى تشكّل وعي جماعي حوّل الخشبة اللبنانية الى أكثر وسائل التعبير فاعلية حينها: عام ١٩٦٢، كانت بداية خوري ممثلاً باللغة الفرنسية في «المركز الجامعي للدراسات المسرحية».
في ذلك العام، عمل على نص بيكيت «في انتظار غودو». بعد أربع سنوات، اقتبس «صعود أرتورو أوي» لبريشت التي كتبها الأخير كرد فعل على صعود النازية في ألمانيا وهو هارب من منفى الى آخر. يذكر خوري جيداً المرحلة التي تلت النكسة حين توحّد معظم اللبنانيين والعرب حول القضية الفلسطينية. كانت المسرحية الأولى التي كتبها خوري عام ١٩٦٨ «ويزمانو، بن غوري وشركاه» التي استند فيها إلى كتابات الصهاينة الأوائل ثم تلتها «جحا في الصفوف الأمامية» عام ١٩٧١ التي تخطت الـ٢٠٠ عرض.
هذا العرض الذي تحدث عن جحا، بائع الفحم المستعد للقيام بكل شيء للبقاء على قيد الحياة، حتى استغباء نفسه. لا بد من أن تتوقف الصورة هنا في ذاكرة خوري، حين كانت هناك هواجس مشتركة جامعة، وكان الموسم المسرحي الواحد يحصد أكثر من ٧٠.٠٠٠ مشاهد.
اليوم، يبدو المشهد المسرحي مختلفاً في نظر المخرج والكاتب: مع سطوة وسائل الميديا والتلفزيون والحياة العنكبوتية الافتراضية، و«غياب الهواجس المشتركة»، وانحسار عدد المشاهدين الى ٣٠٠٠ في أحسن الأحوال، فُقد المسرح.
مع ذلك، لم تمنع كل تلك الأفكار خوري من إخراج «خدني بحلمك مستر فرويد» السنة الماضية، ولا من نشر نص المسرحية في كتاب بعد أشهر. وها هو اليوم يعيد تنفيذ «فخامة الرئيس» التي عرضت عام ١٩٨٨. النص الذي كتبه وأخرجه خوري قبل ٢٧ عاماً نتيجة الفراغ الرئاسي الحاصل آنذاك ما زال يحاكي واقع اليوم، أو فراغه. يعود الخواجة مخول الذي يلعب دوره اليوم أسعد حداد، يتآكله طموح الوصول إلى السلطة. رجل متزوج من شابة وصولية تحب المظاهر، تمجّ ثراء زوجها وتسعى الى استغلاله، يساعدها في ذلك صديقها الصحافي. حين يجتمع إغواء الوصول الى السلطة مع حب الظهور، تتبلور كوميديا هزلية لا تخلو من نقد اجتماعي لاذع.
يعود جلال خوري ليفتتح هذا العمل في يوم المسرح العالمي من دون أن تثير تلك المناسبة أي حماسة لديه. وصلنا الى «مسرح الجميزة». يسلمنا المنشور الخاص بـ «فخامة الرئيس» من بطولة كل من أسعد حداد، شربل زيادة، بشير مارون، سولانج تراك ونادين نعمه. نكمل طريقنا فيما يتوالى أمامنا شريط صور لتلك العروض التي حظيت بحضورها أخيراً في المدينة، وباتت جثثاً هامدة من دون وجه حق.

* «فخامة الرئيس»: 20:30 بدءاً من اليوم حتى 2 أيار (مايو) ــ «مسرح الجميزة» ـ للاستعلام: 70/409109