القاهرة | جمعت عبد الحليم حافظ علاقة قوية بمجموعة من شعراء العامية في مصر، أوجدوا معه واقعاً مغايراً للأغنية المصرية. كان على رأسهم عبد الرحمن الأبنودي (الخال) الذي انتقل مع بليغ حمدي من محمد رشدي إلى حليم. يروي الأبنودي في كتابه «الخال» (منشورات «دار المصري»، 2013) أنه لمح في غرفة نوم حليم ديوانه «الأرض والعيال»، وقد طلب منه الأبنودي بدايةً أن تكون قصيدة عن العدوان الثلاثي أولى الأغنيات التي يغنيها حليم من أشعاره. رأى حليم أن اختيار أغنية عن العدوان الثلاثي ليس موفقاً، خصوصاً أنّها مناسبة متأخرة.
مع عبد العظيم محمد الملحن، خرجت أول أغنية بعنوان «الفنار». لكن الحكاية الأطرف أن أغنية «أنا كل ما أقول التوبة» كانت ارتجالية المقاطع، فلم يكن الأبنودي قد انتهى منها بعد وكتب باقي مقاطعها في الاستوديو أثناء التسجيل، وكان لحن بليغ حمدي هو الأنسب.
بعد النكسة، طلب حليم من الأبنودي أغنية عن تلك الفترة، فأعطاه ورقة لقصيدة كتبها قبل النكسة تقول مفرداتها: «عدى النهار/ والمغربية جاية/ تتخفى ورا ضهر الشجر/ وعشان نتوه في السكة/ تاهت من ليالينا القمر/ وبلدنا على الترعة/ بتغسل شعرها/ جانا نهار/ ما قدرش يدفع مهرها...». كانت «عدى النهار» من المحطات الفارقة في حياة عبد الحليم وكان عبد الناصر يتفقد الأغنية على إذاعة «صوت العرب». التعاون الأخير بينهما كان أغنية «صباح الخير يا سينا» بعد نصر أكتوبر.
عندما توفي حليم، رثاه الأبنودي بقصيدة قال فيها: «فينك يا عبد الحليم/ كتبت سطرين/ بس كنت حزين/ أدي ورقتي لمين/ فينك/ نغني تاني موال النهار/ يا صاحب الرحلة ف طريق الشوك/ أنت مامتش/ هما شبعوا موت».
جمعت صداقة قوية أيضاً بين حليم والشاعر صلاح جاهين الذي اتسمت كلماته بسلاسة واضحة، بالإضافة إلى قدرتها على اقتناص الموقف من دون تكلّف أو مواربة. أول اللقاءات بينهما كانت في رائعة «إحنا الشعب» التي غناها حليم (24 يوليو 1956) في مناسبة اختيار الشعب المصري عبد الناصر رئيساً للجمهورية، وقد لحنها كمال الطويل، ويقول مطلعها: «إحنا الشعب/إحنا الشعب/ إختارناك من قلب الشعب/ يا فاتح باب الحرية/ يا ريس يا كبير القلب...». ثم جاءت المحطة الثانية بين جاهين وحليم في أغنية «بالأحضان» التي لحنّها كمال الطويل احتفالاً بالعيد التاسع للثورة (23 يوليو 1961) التي يقول مطلعها: «بالأحضان يا بلادنا يا حلوة بالأحضان/ في ميعادك يتلموا ولادك/ يا بلادنا وتعود أعيادك والغايب ما يطقش بعادك/ يرجع ياخدك بالأحضان/ بالأحضان يا حبيبي يا أمي/ يا بلادي يا غنوة في دمي».

نشر إعلاناً في «الأهرام»
مفاده: «ارجع يا صلاح جاهين، أهلك بيدوروا عليك»
أما اللقاء الثالث بينهما، فكان في «المسؤولية» التي لحنّها أيضاً الطويل في عيد الثورة الـ 11 عام 1963 التي تدور في صميمها عن الاتحاد الاشتراكي الذي فرض حاله على واقع الحياة المصرية. لكن بصمة جاهين الواضحة ظهرت في التعاون الأخير مع حليم في أغنية «يا أهلاً بالمعارك» التي غناها حليم في عيد الثورة الـ 13 عام 1965 وقد خيّم عليها النفس الثوري والتشجيعي نحو الحرب وشحذ الهمم، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال المقطع: «يا أهلاً بالمعارك/ يا بخت مين يشارك/ بنارها نستبارك ونطلع منصورين/ ملايين الشعب تدق الكعب/ تقول كلنا جاهزين/ يا أهلا بالمعارك...». التعاون الخامس بينهما كان في أغنية «صورة» التي جمعت الشعب تحت راية واحدة من خلال صوت حليم الذي يلمع بين كورس من النساء والرجال ويقول: «صورة/ كلنا كده عايزين صورة/ صورة تحت الراية المنصورة/ صورة للشعب الفرحان تحت الراية المنصورة/ يا زمان صورنا/ ح نقرب من بعض كمان/ واللي هيبعد من الميدان/ عمره ما هيبان في الصورة...». واختتم جاهين أغنياته مع حليم بـ «ناصر يا حرية» التي حملت المشاعر الناصرية في تلك الفترة: «ناصر يا حرية/ ناصر يا وطنية/ ناصر يا روح الأمة العربية».
تلك الصداقة التي استمرت لفترة طويلة أخرجت ثنائياً فنياً إلى الحياة المصرية، جعلت بهيجة أخت جاهين إلى الذهاب مرةً إلى منزل حليم، والطلب منه أن يعيد أخاها جاهين بعد اختفائه. في اليوم التالي، نشر حليم إعلاناً في «الأهرام» مفاده: «إرجع يا صلاح. أهلك بيدوروا عليك». فقد اختفى جاهين لفترة في الإسكندرية بعد وفاة والده الذي لم يتحمل رؤيته مريضاً.
تعاون حليم أيضاً مع الشاعر فتحي قورة الذي كتب له «يا سيدي أمرك»، و«وحياة قلبي وأفراحه»، و«بكره وبعده». الأخيرة تحديداً ظهرت في ألبوم فريق «بينك مارتيني» العالمي (Hey Eugene-2007). ومن بين الشعراء الذين كانت لهم بصمة واضحة في حياة العندليب مرسي جميل عزيز في أغنيات شهيرة مثل «بحلم بيك» التي لحنها منير مراد في فيلم «حكاية حب»، بالإضافة إلى «بتلوموني ليه»، و«جواب»، و«بأمر الحب». وبالتأكيد لا ننسى رائعته «من غير ليه».
الشاعر الأخير الذي كانت له نكهته الخاصة هو محسن الخياط صاحب رائعة «النجمة مالت ع القمر» التي تعدّ من أبرز أغنيات حليم التي يقول فيها: «النجمة مالت ع القمر/ فوق في العلالي/ قالت له شايفه يا قمر أفراح قبالي/ قال القمر بينا نسهر على المينا/ ده النور على شط القنال سهران يلالي/ شاف القمر ع الضفتين زفة
زينة».
تلك المسيرة الطويلة التي جمعت حليم مع شعراء العامية في مصر أسهمت في تكوين واقع مغاير في الحياة المصرية بدأت معالمها تتبدل يوماً بعد يوم خصوصاً مع تقنيات الأغنية الجديدة التي تفتقر ربما إلى الروح والشجن.