بين ولادة ندم عليها، واختياره الفن الذي اعتبره خطأً لكنه لم يندم عليه، أكثر من 40 عاماً شكّلت مسيرة أحد أهم المسرحيين العرب، وأبرز رواد المسرح اللبناني الحديث. انطفأ ريمون جبارة (1935 ـــ 2015) أمس في «مستشفى بحنس»، تاركاً شيئاً منه في كل الأعمال التي قدمها على حد تعبيره. جدلية الفقير والمثقف والأحلام المحبطة، الموت، الرغبة، القمع، اللعبة السلطويّة، وصاية رجال الدين والله، عيوب المجتمع، وعبثية الوجود... كلها تيمات ارتكز عليها نتاج أحد روّاد المسرح العبثي في العالم العربي.

الممثل ثم المؤلف والمخرج اللبناني ولد في قرنة شهوان عام 1935. في مدرسة «راهبات القلبين الأقدسين»، اكتشف حبّ التمثيل، فدأب على المشاركة في المسرحيات التي كان يخرجها المختار وفق ما قال لنا في مقابلة سابقة (الأخبار 21/2/2011). بعد سنوات، انتقلت عائلته إلى بيروت حيث التحق بمدرسة «الحكمة» في الأشرفية، لكنه لم يكمل الشهادة الثانوية بسبب مرض والده الذي دخل «الدوائر العقارية حاجباً وخرج منها حاجباً فيما اغتنى آخرون». ظلّ حلم الخشبة يراوده من دون أن يصارح أهله به إلى أن أتته الفرصة عام 1961. ضمن أنشطة «مهرجانات بعلبك الدولية»، كان صديقه المسرحي منير أبو دبس يدير «معهد التمثيل الحديث» الذي سيصبح لاحقاً «مدرسة بيروت للمسرح الحديث». لعب هذا الفضاء دوراً أساسياً في النهضة المسرحية خلال ستينيات القرن الماضي، مع أسماء من أمثال أنطوان ولطيفة ملتقى، ورضا خوري، وميشال نبعة، وشكيب خوري، ويعقوب الشدراوي... في ذلك العام، أتاح له أبو دبس فرصته الأولى، فجسد دور «كريون» في مسرحية «أنتيغونا». لاحقاً، حين وقعت القطيعة بينه وبين أبو دبس، انضم إلى أنطوان ملتقى الذي أسس «حلقة المسرح اللبناني»، وأدى أدواراً رئيسية تحت إدارة ملتقى وبيرج فازيليان. تزامناً مع ذلك، بدأ بتدريس المسرح في «الجامعة اللبنانية» ثم «جامعة الكسليك» التي بقي فيها حتى أيامه الأخيرة. بعد تجاربه التمثيلية، خاض غمار التأليف لأنّه اعتبر أنّ الممثل هو أفضل من كتب للمسرح. هكذا، قدّم باكورته «لتمُت ديسدمونة» التي ألفها وأخرجها على مسرح بعلبك عام 1970 واعتبرها الأحب إلى قلبه لأنّ النقاد رأوا أنّه نسف فيها قواعد المسرح من أوله إلى آخره. بعدها، توالت أعماله مع حفنة من الممثلين البارزين: الراحلة رضا خوري، الراحل فيليب عقيقي، كميل سلامة، رفعت طربيه، جوزف بونصّار، والجيل اللاحق أي غابريـال يمين، جوليا قصار، رندا الأسمر… فقدم «تحت رعاية زكور» (1972)، «شربل» (1976)، «زرادشت صار كلباً» (1977)، «محاكمة يسوع» (1979)، «قندلفت يصعد إلى السماء» (1980)، «دكر النحل» (1982)، «صانع الاحلام» (1985)، «مَن قطف زهرة الخريف» (1992)، «بيكنيك ع خطوط التماس» (1997)، «مقتل إن واخواتها» (2012 ـ إنتاج "جامعة اللويزة" التي كرمته وأطلقت جائزة باسمه عام 2011)... حتى إنّه في آخر أيامه، كان يكتب مسرحية لكميل سلامة يلعبها بمفرده مع حذائه بعنوان «الصبّاط» وفق ما قال في مقابلته الأخيرة مع دنيز مشنتف (مجلة «الأمن العام») قبل أشهر. خاض جبارة أيضاً تجارب مرادفة عدة منها مثل برنامجه اليومي "ألو سيتّي" على إذاعة "صوت لبنان"، وعموده في ملحق «النهار» الثقافي وإدارته «تلفزيون لبنان» بين أعوام 1986 حتى 1990 التي خرج منها بشلل نصفي. لقد آمن هذا السوداوي والعدمي بأنّ النص والممثل هما العنصران الأهم في المسرح، وأنّ الفن ينطلق من حالات سوء التفاهم مع الله والناس والحياة، وبأنه لا إبداع من دون وجع، فـ«الإنسان الذي يعيش هذه الحالات يصبح فناناً. لكن المتَّفِق مع الله والناس والحياة يكون إما بطريركاً أو كاهناً أو شيخاً أو نائباً».