صمت فوق خشبة المسرح اللبناني: مات ريمون جبارة. ذلك الصمت الذي أحبّه جبارة ومنحه أربع دقائق كاملة في خطوة اعتبرها بعضهم جنونيّة في مسرحيّة «لتمت ديسدمونة» (١٩٧٠). وكما قال لنا في آخر لقاء معه عام ٢٠١٢ في «مسرح مونو» خلال افتتاح عرض «مقتل إنّ وأخواتها» (الأخبار 13/12/2012)، فإنّه تعلّم هذا الصمت من عازف آلة البزق البدوّي مطر محمد. كما فعل أبوه، قام محمد بدفن سرّة ابنه داخل بزقه. وخلال العزف، كان يتوقف أحياناً ويضع أذنه على البزق ليستمع إلى سرّة ابنه.
اليوم نضع أذننا على خشبة المسرح صامتين لنستمع إلى أثر ريمون جبارة فوق تلك الخشبة، إلى جزء أساسيّ من تاريخ المسرح اللبناني، إلى أبي العبث اللبناني. خلال اللقاء الأخير إياه، تحدث جبارة عن فطرته في كتابة مسرحه: «لم أتعلم المسرح، لكن مثلما شعرت، فعلت. أنا بعمل مسرح لأتسلى». لم يكتب يوماً نصاً مسرحيّاً كاملاً، بل كان يلج التمارين مع الممثلين مع ورقة أو اثنتين. أمّا الباقي، فكان يلد على الخشبة. اختار العمل مع ممثلين محددين وثابر على العمل معهم، لأنه أحبّهم، وكان يكتب لهم الأدوار خصيصاً، منهم: جوليا قصّار، غابريـال يمّين، رفعت طربيه، رضا خوري، فيليب عقيقي، كميل سلامة، رندا الأسمر، ومادونا غازي...

صنع مسرحاً عن الإنسان، وهمومه وأوجاعه وأفراحه
الجميع حوله كان يعمل معه بحبّ وثقة عمياء. أحد أهم مؤسسي المسرح الحديث في لبنان، لم يعنه يوماً الهدف أو الرسالة في المسرح، بل صنع مسرحاً عن الإنسان، وهمومه وأوجاعه وأفراحه. صنع مسرحاً يخاطب جميع فئات الجمهور من النخب إلى العريض. اختار لغة بسيطة وساخرة يختزن فيها أسئلة عميقة عن الإنسانيّة، ما جعل مسرحياته حيّة ومعاصرة حتى اليوم. رغم معاناته من عوارض صحيّة في أواخر سنوات حياته، إلا أنه سخر من مرضه وتابع العمل، كتابة وإخراجاً. في أحد مقاهي قرنة شهوان، حوّل طاولة إلى مكتب يتابع فيه كتابة المسرح. وإن كانت بعض الكلمات تبدأ على الورق وتنتهي على الطاولة، بسبب الشلل النصفي الذي أصابه، إلا أن الممثل وصديقه العزيز غابريـال يمّين كان يعاونه على إعادة نسخ النصوص. في «مقتل إنّ وأخواتها»، ورغم حالته الجسديّة السيئة، أبى أن يغيب عن ليلة الافتتاح. أراد أن يرى الممثلين على الخشبة، هو الذي يعشق التمثيل ولطالما قال إنّ الممثل فيه يبقى أقوى من الكاتب والمخرج. يومها قال لنا: «أريد أن أتابع العرض كي أضحك على أخطاء الممثلين». ذلك الرجل عرف كيف يضحك، ويعشق المسرح، ويتسلى في خلق مسرحه. نصمت اليوم لفقدانك، ونسخر من الموت الذي ـ وإن خطفك منّا ـ لن يستطيع أن يسلبنا الإرث المسرحي الذي تركته لنا. يا «صانع الأحلام» وداعاً.