الرباط | تحفة فنية قدّمها المخرج المسرحي المغربي الشاب محمد الحر مع فرقة «أكون» على خشبة «المسرح الوطني محمد الخامس» في الرباط قبل فترة. الحر الذي يعدّ واحداً من الجيل الجديد من المخرجين الشباب المسكونين بتحديث المسرح المغربي، قدّم عرضه الرائع "تيرياحين" الذي استلهمه من مسرحية "مهاجر بريسبان" للأديب اللبناني جورج شحادة. تجري الأحداث في قرية صغيرة في أقصى الجنوب المغربي تدعى "تيرياحين" في إقليم طاطا. سيستيقظ سكان هذه القرية ذات يوم على خبر وفاة رجل أجنبي غريب في قريتهم مع ثروة كبيرة مخبأة في حقيبة يجب أن تؤول إلى ابنه الموجود في القبيلة. هنا تبدأ عقدة البحث عن ابن الرجل الغريب والمرأة التي كانت تربطها علاقة حب بالأجنبي لأنّ جميع نساء القبيلة متزوجات. العرض الذي أدى بطولته كل من عبد الله ديدان، جميلة الهوني، بوشعيب الصماك يبدأ بمحاولة رجل طعن امرأة، قبل أن يظهر صوت خارجي يأمر بإيقاف المشهد. سيظهر مخرج المسرحية لتوجيه المتلقي إلى المغزى من وراء صورة البداية التي تترك جميع التأويلات صحيحة، وتفتح شهية المتفرج للتعرف إلى هوية الشخصيتين اللتين ظهرتا، والسبب الذي جعل الرجل يحاول طعن المرأة. ثم ستضعنا الصورة في ساحة تيرياحين حيث سيجري الحوار بين شخصيتين بارزتين في المسرحية هما الطالب علي وبونعيلات الذي سيلعب دور السارد.يحاول بونعيلات من خلال طريقته في سرد قصة الرجل الأجنبي الذي توفي على أرض هذه القرية الجنوبية أن يزرع الشك في ذهن الطالب علي ليصل إلى النتيجة التي توصل إليها "بونعيلات" بخصوص علاقة زوجته شامة بالرجل الغريب قبل أن ينسحب بهدوء بمجرد أن يقتنع الطالب علي بالفكرة تاركاً للشخصيتين المتبقيتين مهمة إكمال بقية الأحداث. ستتسارع الأحداث وسيبدأ الزوج باستنطاق الزوجة، مقتنعاً بفكرة الخيانة. وأمام الضغط، ستخبره أنّ أعز أبنائه ليس ابنه، ليقرر قتلها.
في هذه اللحظة، سنعود إلى مشهد البداية، وسيبدو كأننا قمنا بإتمام تركيب ما ينقص الصورة أي أنّ الزوج سيحاول الانتقام بقتل الزوجة، لكن المخرج سيصفعنا مجدداً باقتحامه العرض ليأخذ الكلمة قائلاً إنه كان بوده أن تكون نهاية الحكاية بهذه الطريقة، لكن هذا ليس ما حصل في القصة، ليعود الغموض إلى المتلقي الذي توقع نهاية كلاسيكية بناء على الأحداث التي تم سردها. ثم سيعود بنا الحر إلى الوراء لنكتشف أن فكرة الانتقام من الزوجة لم تخطر في بال الزوج إلا للحظة قبل أن يتراجع عنها بينما كان طموحه هو إقناعها بالاعتراف بالخيانة للظفر بالحقيبة المليئة بالمال. لكن أمام تعنت الزوجة ورفضها وخشية انفضاح أمره في القبيلة، سيعمد إلى قتلها طعناً. نهاية أبدع فيها محمد الحر مصيراً جديداً للحكاية مغايراً عن نص جورج شحادة الأصلي الذي يكتشف الناس في النهاية أن الميت العجوز صاحب المال توفي في القرية الخطأ وأن صراعهم على المال واعتراف الكثير من النساء بأنهن عشيقاته السابقات مجرد افتراء.
وكما هي أعمال محمد الحر، فإن "تيرياحين" منجز مراوغ ومخادع ذلك أنه يترك المتلقي نهماً ويجعل كل القراءات ممكنة لأنّ المسرحية غنية ومكثفة بالرموز والمضامين والرسائل والإيحاءات. كما أنها قاربت جوانب عديدة ولامست قضايا مجتمعية كثيرة، من قضايا المرأة وتكسير التابوهات والمحرمات وتهميش المناطق الفقيرة وعذابات العيش في القرية، مروراً بالسخرية من رجال السلطة في المغرب الذين عمروا في مناصبهم أكثر مما عمر زعماء ورؤساء أطاحت بهم الثورات العربية كما ورد في إحدى مشاهد المسرحية، وصولاً إلى محاكمة الإنسان الجشع المستعد للتخلي عن كل شيء مقابل تحسين وضعه الاجتماعي.