كان - خمس تيمات أساسية غلبت على الأفلام المشاركة في الدورة 69 من «مهرجان كان السينمائي» الذي اختتم أمس بإعلان النتائج التي توصلت إليها لجنة التحكيم التي ترأسها السينمائي الاسترالي جورج ميللر. هناك أولاً الدراما العائلية ذات المنحى النفسي، التي تسعى لرصد أغوار الجراح الدفينة لشخوص معذبة تتنازعها ثنائيات التجاذب والتنافر مع محيطها العائلي الأقرب. وقد برز ذلك في رائعة الإيراني أصغر فرهادي «البائع» الذي نال بطله شهاب حسيني جائزة أفضل ممثل، فيما نال فرهادي نفسه جائزة أفضل سيناريو.


يحكي الشريط قصة ممثلين مسرحيين تنهار العمارة التي يسكنان فيها، فينتقلان الى بيت جديد تتعرض فيه الزوجة لاعتداء ليلي من قبل مجهول، فتسعى هي الى إنكار الأمر وتناسيه، بينما يصرّ الزوج على القصاص. وفي «توني إردمان» للألمانية مارين أدي، نرى العلاقة الاشكالية بين أب متسلط وابنته التي تخفي وراء نجاحها المهني قلقاً وجودياً وخواء روحياً لا تتحرر منهما الا بعد مصالحة صعبة وقاسية مع والدها. وفي «خولييتا» جديد المعلم بيدرو المودوفار، الذي يعد أنضج أعماله منذ «كل شيء عن أمي» (1999)، نشاهد أماً مفجوعة بمقتل زوجها واختفاء ابنتها. وفي «أنا دانييل بليك» لعراب السينما اليسارية الأوروبية كين لوتش الذي نال السعفة الذهبية، تقاتل عائلة مسحوقة للحفاظ على كرامتها، بعد تسريح الوالد من الشغل، واضطراره لإعالة أسرته من المعونات الاجتماعية.

في «العسل الأميركي» (جائزة لجنة التحكيم)، تفضح أندريا أرنولد الوجه القبيح للمجتمع الأميركي

وفي «نهاية العالم لا غير» للنابغة الكندي غزافييه دولان الذي نال الجائزة الكبرى؛ يعود كاتب شاب الى مسقط رأسه، بعد سنين من الغياب، ليعلن لأقاربه موته الوشيك. وفي «بكالوريا» للروماني كريستيان مونجيو (جائزة أفضل إخراج مناصفة مع شريط أوليفييه أساياس «المتسوقة الشخصية» ــ راجع مقالة الزميلة ساندي الراسي)، يسعى والد للعناية بابنته اثر تعرضها لاعتداء جنسي، عشية اجتيازها امتحان البكالوريا. وأيضاً نرى ذلك في تحفة السينمائي الفليبيني بريانتي مندوزا «ماما روزا» التي تعد العمل الآسيوي الأبرز في هذه الدورة. وقد منحت بطلته جاكلين روز جائزة أفضل ممثلة. هذا إلى جانب عالم المراهقين والمخدرات والإدمان وصراعهم مع الكبار في فيلم Divines للمغربية هدى بن يمينة التي نالت جائزة الكاميرا الذهبية التي تكافئ الأفلام الأولى لمخرجيها.

وشكلت تيمة المهمشين والمسحوقين، الذين يتقاتلون لتحقيق مكانة تحت الشمس، متحدين شظف العيش وقساوة المحيط الاجتماعي المهيمن، من خلال التمسك بالأمل وحب الحياة، سمة مشتركة بين عدد مُلفت من أفلام هذه الدورة، أبرزها «العسل الأميركي» الذي حاز جائزة لجنة التحكيم. هنا، تلقي البريطانية أندريا أرنولد نظرة تشريحية قاسية تفضح الوجه القبيح للمجتمع الأميركي من خلال شلة من المراهقين المشردين، الذين يعتاشون من النصب والاحتيال، متنقلين بين مدينة وأخرى. تيمة المهمشين برزت بأشكال متعددة في أفلام اخرى، كرائعة جيم جارموش «باترسون» (من خلال شخصية سائق الباص - الشاعر). وفي «ماما روزا» لبريانتي مندوزا، تضطر ربة عائلة للاتجار بالمخدرات لإعالة وتعليم أبنائها الأربعة. وفي «الفتاة المجهولة» للأخوين داردين، نشاهد طبيبة متطوعة تغوص في عوالم الفقراء والمهمشين والمهاجرين السريين في أحياء الضواحي التي تشكل أحزمة فقر تحيط بأغلب المدن الأوروبية. وفي فيلم «حب»، سلط الأميركي جيف نيكولس الضوء على التفرقة العنصرية المتجذرة في المجتمع الأميركي، من خلال قصة حب بين شاب ابيض وفتاة «زنجية» في أواخر الخمسينات من القرن الماضي. وفي «البقاء عمودياً» للفرنسي ألان غيرودي، قصة حب اشكالية في وسط ريفي معزول تقطنه غالبية من الفلاحين الفقراء.

أما التيمة الثالثة الغالبة على أفلام هذه الدورة، فقد تمثلت في عقدة الذنب وما تولده من تأنيب ضمير لدى شخوص ملتبسة تستعصي على التصنيف التقليدي من منظور ثنائية الشر والخير: «جيني» الطبيبة المتطوعة التي تتسبب ــــ عن غير قصد ــــ في مقتل «فتاة مجهولة» في فيلم الأخوين داردين؛ و«ماما روزا» وزوجها نستور، اللذان يضطران، تحت ابتزاز الشرطة، لانقاذ عائلتهما عبر الوشاية بمن كان يزودها بالمخدرات، فيتعرض الأخير بدوره للابتزاز والتعنيف الجسدي القاسي في فيلم مندوزا؛ «خولييتا» الأم الكسيرة، التي تداري جرحاً غائراً، على مدى ربع قرن، مؤنبة نفسها بسبب مقتل زوجها في عرض البحر على اثر مشادات نشبت بينهما، واختفاء ابنتهما في ظروف غاضمة، غضباً من والدتها وباقي أفراد العائلة لأنهم أخفوا عنها ملابسات مقتل والدها...

واحتلت تيمة القصاص والرغبة في الانتقام مكانة مركزية في فيلمين هما «البائع» لأصغر فرهادي و«هي» للهولندي بول فيرهوفن. تتعرض الشخصية النسوية في العملين لاعتداء من قبل مجهول يتسلل الى بيتها ليلاً، فتتم مطاردة هذا المجهول طيلة الفيلم للقصاص منه، من قبل الزوج عند فرهادي، ومن قبل المعتدى عليها في فيلم فيرهوفن.

وكانت ظاهرة أكلة لحوم البشر تيمة مشتركة بين فيلمين هما «شياطين العدم» الدنماركي نيكولاس ويندينغ ريفن، وma loute أو «صغيرتي» للفرنسي برونو دومون. لكن عوالم هذين الفيلمين جاءت متباعدة جداً. في حين قدم دومون كوميديا فاقعة مليئة بالفكاهة السوداء والعبث الغرائبي اللاذع والمبهر، جاء فيلم ريفن على شكل تهويمات فلسفية غامضة زادها التباساً المنحى الجمالي ذو الطابع الاستعراضي المبالغ فيه، بحيث كان الجمهور ينفجر ضحكاً في مشاهد الفيلم التي يفترض أن تكون درامية ومؤثرة!

ويجدر التنويه إلى أنّ فيلمي فرهادي ودولان، على اختلاف مضمونهما وتباعد الرؤى الاخراجية لصاحبيهما، جمعت بينهما سمة مشتركة تمثلت في توظيف كل واحد منهما لعمل مسرحي في فيلمه («موت بائع متجول» لآرثر ميلر عن فرهدي/«نهاية العالم لا غير» جان لوك لاغارس عند دولان)، ضمن لعبة مرايا متقنة يتداخل فيها الواقع بالخيال، ويفلت عبرها الفيلم من قساوة وضيق الفضاء المغلق الذي تدور فيه كل أحداثه.