في الموسم الأخير لمسلسل «لعبة العروش»، تأكّدت إحدى أشهر «نظريات المؤامرة» التي رافقت قرّاء الروايات لأكثر من عقد، وسبقت بكثيرٍ ظهور المسلسل التلفزيوني. النظرية التي صارت تسمى اختصاراً بين جمهور المتابعين (R+L=J)، قرأت بين السطور، وبحثت عن «مفاتيح» زرعها جورج مارتين في كتبه ــ إشارةٌ غامضة هنا، تعليق على لسان شخصية هناك ــ لتصوغ سردية تؤكّد أن جون سنو (الذي يفترض أنه ابنٌ غير شرعي لنيد ستارك) هو، حقيقةً، ابنٌ لليانا، أخت نيد، مع الأمير رايغار، التي تسببت قصة حبّهما (أو «خطف» رايغار لليانا، بحسب رواية المعسكر المنتصر) في الحرب الأهلية والثورة ونهاية الحكم المديد لسلالة «تارغاريان».هذه النظرية شهيرة، والدلائل عليها كثيرة، ولم يأتِ تأكيدها مفاجأةً لأحد، ولكنّ جماهير المتابعين للرواية والمسلسل أنتجوا على مرّ السنين عدداً لا يحصى من هذه السرديات «البديلة»، بعضها شديد التعقيد والتشابك، وقد انكبّ آلاف المعجبين المهووسين على كتب مارتن يتفحّصونها، كأنّها نصوصٌ مقدّسة، ويؤوّلونها ويفسّرونها ويبحثون عن رموزٍ خفية ورسائل مدفونة في باطن المعاني والكلمات. تتراوح هذه النظريات بين المعقول والمنطقي (كنظرية «المؤامرة الشمالية الكبرى»، أو فكرة أن تيريون لانيستر، القزم، ليس ابن تايوين وليس من عائلة لانيستر، بل هو ثمرة علاقة بين «الملك المجنون»، آريس تارغاريان، وزوجة تايوين، حين كان الأخير يقيم في العاصمة ويرأس مجلس الوزراء) وبين الجامح المجنون. هل تعرفون، مثلاً، نظرية «أنهر الشمال» ومفادها أنّ كلّ الحرب في إقليم الشمال تجري فعلياً حول طرق التجارة والسيطرة على مجاري الأنهر الأساسية؟ يمكن العثور على وصفٍ لهذه السردية يستغرق أكثر من خمسين دقيقة على «يوتيوب»، وهو يشرح ــ باختصار ــ أنّ «الاقتصاد السياسي» هو مصدر كلّ التحالفات والعداوات والخيانات في الإقليم الشمالي ــ طرق المواصلات والمرافئ والتجارة الداخلية ــ وأن الأنهر (تحديداً نهر «السكين الأبيض» الذي يصبّ قرب المرفأ الرئيسي في الشمال، مدينة «وايت هاربور»، ويخترق الداخل وصولاً الى «وينترفل» ومناطق الصيد وإنتاج الأخشاب) هي مفتاح الثروة في الشمال.
«من يضطر لأن يقول أنا الملك، ليس ملكاً بحق» - تايوين لانستير

وفق هذه النظرية، قام رووس بولتون بخيانة أسياده من آل ستارك، وتنفيذ المجزرة بهم وبعائلات الشمال الكبرى خلال «العرس الأحمر»، لأنّ آل ماندرلي (حكّام وايت هاربور) كانوا على وشك الهيمنة ــ عبر المصاهرة والنفوذ وقربهم من آل ستارك ــ على كامل مجرى «السكين الأبيض»، والتوسّع شمالاً على طول الساحل. ومع إعلان روب ستارك نفسه «ملكاً في الشمال»، تزداد الأهمية الاقتصادية للمرفأ والنهر. ما حسم المسألة، يقول أصحاب هذه النظرية، هو أنّ «وايمان ماندرلي» استغلّ مناسبة تتويج روب لتذكيره بأنه يحتاج الى صكّ عملةٍ خاصة به، طالما أنه صار ملكاً مستقلاً، وعرض أن يقوم هو بالمهمّة، وقد وافق روب. هكذا، من وجهة نظر رووس بولتون، يصبح آل ماندرلي القوة الثانية في الشمال بلا منازع، بعد آل ستارك: الثروة في يدهم، والمدينة الأكبر، والتجارة والجمارك، وقد جعلهم روب ستارك بمثابة «المصرف المركزي» للشمال، المخول إصدار العملة. هكذا، ينزوي آل بولتون، وهم أصلاً مكروهون من باقي العائلات الشمالية، في زاويتهم الفقيرة المهمّشة، قرب الثلوج القطبية والغزاة البرابرة، وينزلقون الى رتبة بيتٍ من الدرجة الثانية ــ ولم يكن رووس بولتون قادراً على القبول بهذا الواقع الجديد (توجد نظرية أخرى لا تقلّ غرابة وتعقيداً، «نظرية أزمة الدين»، تعيد تفسير كلّ أحداث الرواية على أنّها نتيجة «أزمة دين» ضربت المالية العامة لمملكة «ويستيروس» في آخر أيام «روبرت بوراثيان»، وقد هندسها «بيتر بايليش» حين كان وزيراً للمال، ليضمن أن تقع الحرب والفوضى ويحصل على فرصته لـ«تسلق السلّم»).
ولكن بعض هذه النظريات، حقيقةً، تشي بذكاء وإبداع لدى «المفسّرين»، وألغاز حقيقية كثيرة زرعها جورج مارتن في كتبه، بعضها ذو طابعٍ «فلسفي»، وقد لا نحصل على إجابة عنها من خلال أحداث الرواية. خذوا نظرية «القطب الشمالي» مثالاً: إذا ما نظرتم الى خريطة «عالم» جورج مارتن، الى قارّة ايسّوس الشرقية، وإلى أقصى شرقها، بعد «خليج المستعبدين» و«أشاي» الغامضة، وعلى حدود مملكة «ييتي» (يُفترض أنها المقابل للحضارة الصينية في عالم مارتن)، يبدأ ما يسمّى «اليباب الرمادي»، وهو يمتدّ الى نهاية الخريطة. المصادر القليلة التي تذكر «اليباب الرمادي» في الروايات تتكلّم عن صحراء بلا نهاية، مناخها قارسٌ لا يحتمل، وتملأها الوحوش والشياطين. أهل «ايسوس» كلّهم يخافون من «اليباب»، ومن أن تعبر أهواله الى مدنهم كما حصل في الماضي بحسب الأساطير والقصص الشعبية. يفصل بين «اليباب» وباقي «ايسوس» بحرٌ وسلاسل جبلية، باستثناء ثغرةٍ في الوسط، قرب «ييتي»، يسدّها ما يسمّى «الحصون الخمسة»، وهي سلسلة قلاع هائلة يربطها سورٌ ارتفاعه أكثر من مئتي متر، بنيت منذ دهورٍ سحيقة لحماية عالم البشر من «الشر» الذي يختبئ في «اليباب». إن لم تلاحظوا بعد، فإنّ توصيف «اليباب» في «ايسوس» يطابق تماماً «أرض الشتاء الدائم» في أقصى شمال «ويستيروس»؛ و«الحصون الخمسة» وسورها المرتفع تلعب، بالضبط، دور «الجدار» وقلاعه وحرّاسه في الغرب؛ أما «الشياطين» التي تذكرها أساطير أهل «ايسوس» فهم «الآخرون»، الموتى الأحياء الذين اجتاحوا «ويستيروس» خلال «الشتاء الطويل» منذ أكثر من ألف عام. إذا ما افترضنا أنّ عالم جورج مارتن هو كرويّ، ككوكب الأرض، فإنّ هناك احتمالاً جدياً ــ وفق هذه النظرية ــ لأن تكون قارتا «ايسوس» و«ويستيروس» متصلتين بـ«القطب الشمالي»، ما يعني أن «أرض الشتاء الدائم» هي ذاتها «اليباب الرمادي»، أو امتدادٌ له، ووحوش «القطب»، حين تخرج من أرض الثلوج وتهاجم الحضارة، فهي تفعل ذلك باتجاه القارّتين في وقتٍ واحد، وهذا سبب تطابق الروايات، في «ايسوس» و«ويستيروس»، عن «اجتياحات» تأتي من أرض الثلوج.
«من يصدر أحكاماً عليه تنفيذها» - نيد ستارك

المسلسل: النظرية السهلة

ابتداءً من الموسم الأخير، اختط المسلسل التلفزيوني طريقاً مختلفاً بالكامل عن الروايات. في الكتب المتبقية من «أغنية الجليد والنار»، ستانيس بوراثيان ــ على الأرجح ــ لن يُهزم ويُقتل بهذه السهولة على أسوار «وينترفل»، وهناك احتمال قويّ بأن لا يتمّ «بعث» جون سنو من الموت، وهناك شخصيات كثيرة، مهمة، يهملها المسلسل بالكامل. من الطبيعي أن يحصل اختزال، فمن المستحيل ترجمة كلّ الشخصيات والأحداث المتشابكة والمسارات الجانبية التي تحويها الكتب الى ساعاتٍ تلفزيونية قليلة. ولكنّ المسألة هنا أعمق، إذ أنّ منتجي المسلسل استخدموا فعلياً قوس الأحداث التي وصلت إليها الروايات كـ«مادة خام»، وانطلقوا منها لصنع مسلسلٍ أميركي شعبيّ تقليدي، ينتهك مسلّمات كتب مارتن وأكثر ما يميّزها.
على عكس ما عوّدتنا عليه «لعبة العروش»، كانت كلّ أحداث الموسم الماضي متوقّعة قبل حصولها، بما في ذلك «المفاجآت» (من قيامة جون سنو الى تدمير «معبد بايلور»)، ولا يمكن الكلام عن «صدمةٍ» واحدة حقيقية تلقّاها الجمهور. بل إنّه، في الحلقة ما قبل الأخيرة، كان في وسع ملايين المشاهدين أن يتوقّعوا، بدقّة، اللحظة التي سيظهر بها جيش «بيتر بايليش»، و«يفاجئنا» وينقذ آل ستارك وهم على شفير الهزيمة ــ وينتصر «البطل» على الشرير، طبعاً، ويتمّ إعدام «رامسي بولتون» بطريقة وحشية مستحقّة، كلّ هذا كنا نعرفه بتفاصيله قبل أن نشاهد الحلقة. هذه ليست «لعبة العروش».
تفاخر بعض المعجبين بأن الحلقة التاسعة من الموسم الأخير نالت علامة كاملة (10/10) على موقع الأفلام الأميركي IMDB. هنا النقطة تحديداً: «تجربة جورج مارتن» الحقيقية، وفرادة رواياته، تتأتى من واقع أنّه لا يمكن لعمل لمارتن أن ينال رضى كلّ الناس وإجماعهم. أنت لا تخرج من قراءة كتب مارتن سعيداً راضياً مطمئناً إلى سير الأحداث، بل تخرج مصدوماً، مرتبكاً، موجع القلب ــ مع رغبةٍ حارقة، لا تقاوم، بمعرفة ما سيحصل تالياً. لهذا السبب، لا يمكن أن يحبّ كلّ النّاس جورج مارتن، وليس من المفترض أن يحصل عمله على 10/10 في تصويتٍ شعبيّ. «لعبة العروش»، في موسمه الأخير، أضحى مسلسلاً يلتزم بكلّ القواعد التقليدية للفيلم الأميركي: عدم إزعاج المشاهدين، النهاية التي يمكن التنبؤ بها، الأمثولة الأخلاقية، الخ...
امتدح العديدون مشهد المعركة الهائل في الحلقة التاسعة، وهو ربما فاق كامل تكاليف الموسم الأوّل، ولكن هنا الفرق بين الحبكة والمؤثرات البصرية. «معركة أبناء الحرام»، مشهد القتال تحديداً، يمكن انتزاعه بالكامل من شريط الأحداث ولن نخسر شيئاً من علاقتنا بالمسلسل بالمعنى السردي والعاطفي. أما «معركة خليج بلاكووتر»، في الموسم الثاني، فقد كانت أفضل بما لا يُقاس، إذ كانت المعركة تروى عبر مجموعة شخصيات معقدة، نستمتع بتفاعل كلٍّ منها مع الأحداث، وقصص كثيرة، ذات مغزى، تجري في وقتٍ واحد والمعركة تدور حولها. أمّا «معركة أبناء الحرام»، فقد كانت مجرّد مواجهة بين رجلين آليين لا عمق لهما، جون سنو ورامسي بولتون، تجري حولهما «رقصة» كبيرة، مكلفة، صمّمها المنتجون والـ«كوريوغراف» ولا حبكة حقيقية فيها ــ هناك حدودٌ للاكتفاء البصري لا يعود يهمّ بعدها حجم الإنتاج، والتلفزيون، على أي حال، لا يمكنه أن ينافس السينما في هذا المضمار.
لهذا السبب، يمكن القول إن الموسم الأخير من «لعبة العروش» لم يكن، بمقاييس الدراما الفنية، على مستوى المسلسلات الرائدة لـ HBO، مثل The Wire، أو حتّى The Sopranos وDeadwood وBreaking Bad (الأخير من إنتاج قناة اي ام سي). الجمهور حصل على عالمٍ يرتكز على التسلية والجنس والحبكة السهلة، أمّا من يريد «مارتن الحقيقي»، فليس أمامه سوى عدّ السنوات الطويلة حتى تخرج الروايات المكتوبة الى النشر، وأن ينسج الأساطير و«نظريات المؤامرة» في الانتظار.