شنّ الإسرائيليون حرباً عليه بسبب عمله «فدائيون»
أحد أبرز هواجس داريو فو المحلية كان السلطة، بوصفها استمراراً للتركة الفاشية القذرة في بنية المؤسسة الإيطالية، ولطالما حذر في أعماله من العولمة، على طريقته، من دون أن تتخذ تحذيراته شكلاً منفراً وعقيماً، كتحذيرات الأيديولوجيين العالقة في مكان عفن في الذاكرة الإيطالية تحديداً. لقد كان شخصاً ضد التعب. في عز عطائه الفني والسياسي، زار مع زوجته مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. ولم تكن زيارةً "استشراقية"، بل أتت في سياق موقف أخلاقي طويل اتخذه المسرحي الإيطالي إلى جانب القضية الإنسانية. شنّ الإسرائيليون حرباً على داريو فو، لكنه كان معتاداً على خوض الحروب العادلة. بعد زيارته كتب "امرأة عربية تتكلم"، لكنه لم يتوقف عند ذلك. أرسلت إليه سيدة فلسطينية حكاية اللجوء والمقاومة، فعرض الشريط في أكثر من مكان، مضيفاً إليها محادثات وتعليقات قامت بأدائها زوجته فرانكا رامه، التي رافقته في معظم أعماله. أثار العمل المسرحي الذي حمل عنوان "فدائيون" غضب الإسرائيليين، واتهموا داريو فو اتهاماً غبياً، بوقوفه إلى جانب "الماينستريم" في القضية الفلسطينية. منعته أميركا مع زوجته من الدخول إلى إليها في 1980 لحضور مهرجان المسرح الإيطالي، فتضامن معه آرثر ميلر وسكورسيزي وآخرون. عاود الأميركيون الكرّة مع زوجته في 1983. لكن كعادته، ردّ داريو فو على ذلك بالسخرية، وبلامبالاته تجاه الدعاية الإسرائيلية. وهكذا، تجوّل "فدائيون" على خشبات المسارح الأوروبية لوقتٍ طويل.
من الناحية الفنية، بدأت حياة داريو فو المسرحية، عملياً، مع "ميسترو بوفو"، التي عرضت أول مرة في 1969، ومعها بدأت أول معاركه السياسية. وهذا تاريخ مهم، لأنه يأتي بعد سنوات ثلاث على انعقاد مجمع الفاتيكان الثاني، الذي يعتبر من نقاط التحول في مسيرة الكنيسة الإيطالية. ولكن الكنيسة التي حاولت بعد مجمعها الظهور بمظهرٍ أكثر ليونة من صيتها المتشدد، لم تستطع أن تتحمل القدرة الهائلة لداريو فو، لإعادة قراءة التاريخ الوسيط، بأدوات الحاضر النقدية. حاولت منع عرض العمل "التجديفي"! ويجب أن ننتبه دائماً إلى تاريخ عرض "ميسترو بوفو". غيّر داريو فو الكثير من أساليب السرد المتبعة في العمل المسرحي التقليدي. كانت "ميسترو بوفو" في ظاهرها الفني مجموعة من المونولوغات التي تتناول الكتاب المقدّس، مع إضافات من أناجيل "منحولة" بالمعنى اللاهوتي للكلمة، وقصصاً شعبية متداولة عن المسيح وحياته. ولكنها، كانت في باطنها، نقداً سوسيولوجياً عميقاً ضدّ البعد السلطوي للموروث الديني، وحركته داخل المجتمع. وضوح ومواربة، وإن كانت أعماله قادرة على الوصول إلى جميع الإيطاليين من دون أي استثناء. كانت بداية حرب سيشنها الفوضوي داريو فو.
اللافت في حياة فو أنه كان قريباً من الناس، مثل "الفوضوي بينيللي" نفسه، الأسطوري بالنسبة إلى عمال الجنوب الإيطالي. بمعنى ما، كان "الرفيق داريو" منسجماً مع أفكاره الفوضوية، وكان مسرحه قادراً على تجاوز الخشبة، وخاصةً أن نقده لأنماط السياسة وسلوكيات أهلها في إيطاليا لاقى أصداءه بين الإيطاليين بلا تكلف. مثل جيل طويل من اليساريين الإيطاليين الراديكاليين، كان داريو فو حالماً، ومعادياً للرأسمالية بوضوح، والأهم، للتمثيلات اليسارية التي تساير وتفسد. أمس، عندما توفي، سارع رئيس الوزراء الإيطالي، ماتيو رينزي، إلى تقديم التعازي برحيله، لكن داريو كان قد وجّه نقداً حاداً لأداء رينزي نفسه. لم يكن فوضوياً بالمعنى الفيلولوجي للكلمة، بل إنه أحد "الأمناء" على تاريخ هذا اليسار وإسهاماته في الحياة الثقافية الأوروبية. أمس، توقفت رئتاه، لتضعا ثقلاً إضافياً على غريللو، والحالمين الآخرين في إيطاليا. تينك الرئتان لم تتوقفا عن الصراخ ضدّ كل مظاهر النظام العالمي الجديد، تعبتا أخيراً. لكن داريو فو المسرحي ترك صوته في قلب المشهد. صدى ذلك الصوت الذي أطلقه في "ساحة الدومو" لا يزال مسموعاً. رغم الضربات التي تعرض لها اليسار الإيطالي عموماً، لأسباب كثيرة، لم ينسحب الفوضوي بعد. وفي 19 شباط (فبراير) 2013، كان موجوداً في ساحة الدومو التاريخية في ميلانو، دعماً لحركة "خمسة نجوم" الساخطة على سير الحياة السياسية في إيطاليا، والتي حققت سلسلة من الاختراقات اللافتة أخيراً في هذا المشهد، رغم أن مؤسسيها ليسوا سياسيين في الأصل. هل سيبقى مسموعاً؟ تقول "أغنية الفوضوي بينيللي" الأيقونية: "شيء ما سيحدث، سينهض الكالابريّون، سيتذكرون الفوضوي بينيللي". وداعاً داريو فو.