الموسيقار... أبو مجد، وأيضاً ملحم بركات (1945 ــــ 2016). الاسم لا يعني شخصاً، بل هو يشير إلى ظاهرة، ويختصر تجربة فنية نادرة، ويحيل إلى موهبة إبداعية فائقة التمايز. الرجل الصاخب، الذي لا يتكلم إلا ليثير زوبعة، والفنان الاستثنائي الذي لا يغني إلا لتصير أغنيته حدثاً عصيّاً على التغاضي، هو أيضاً الكائن البشري المتمرد الذي تشبثت به الحياة كثيراً وعاندت طويلاً قبل أن تسلمه أمس للغياب في مستشفى «أوتيل ديو». احتاج أبو مجد إلى كمّ هائل من طيبة القلب، وسماحة المحيا، وبراءة الطوية حتى يكون محبوباً بقدر ما كان. أمكن لطفولته المقيمة أن تجعل الآخرين يمنحونه من المغفرة ما كانوا يضنّون به على سواه. لم يسلم أحد من سلاطة اللسان الناري، الذي كان أقرب إلى سوط جلاد محترف، لكنّ أحداً لم يسعه أن يحمل الأمر على محمل الضغينة. كان يكفي لذلك الثغر المخاتل أن يفترّ عن ابتسامة لعوب، حتى يصير العتب شيئاً من الماضي، وتتحول الإساءة المفترضة إلى طرفة غير مسبوقة. لم يبد ملحم بركات يوماً أنيقاً في حديثه، لكنه كان ــ على الدوام ــ بارعاً في استيلاد الضحكة البكر من الشفاه المقترة واستنباتها في الملامح المتجهمة. كان لديه من الحبّ ما يكفي لأن يصيب حتى أعداءه النادرين بعدواه المباركة.
الموسيقار محمد عبد الوهاب تأثّر بألحانه التي تخطّت زمنها

في 15 آب (أغسطس) عام 1945، ولد ملحم بركات في كفرشيما. كان والده النجار يمضي أوقات فراغه بالعزف على آلة العود، وكان الصبي الممتلئ بالموهبة، ينتظر غياب أبيه حتى يتناول العود، ويحرك أوتاره بعبث مميز. تحلق حوله الناس، وظلوا كذلك حتى يوم الرحيل، سرعان ما اجتذبته الموسيقى نحو عوالمها الساحرة. كان الموسيقار العملاق محمد عبد الوهاب أول من لفت انتباهه، تأثر بألحانه التي تخطت زمنها. لم ينتظر بركات الكثير من الوقت حتى يجاهر بموهبته، ويطرح سمات التحدي التي تميز شخصيته. اختار كلمات من جريدة يومية فعمد الى تلحينها وتأديتها في حفل مدرسي. كان الموسيقار الاستثنائي سيد درويش يعلن نظرياً استعداده لتلحين كلام الجرائد، لكن ملحم بركات فعلها، وكان صبياً حينها. وضع بعد ذلك نشيداً للمدرسة. يذكر أنّ والده سأله مستنكراً بعدما صارحه برغبته في دراسة الموسيقى: «هل تنوي منافسة محمد عبد الوهاب؟». لكن كلام الأب لم يحبط الولد العنيد. في السادسة عشرة من عمره، ترك المدرسة ليلتحق بمعهد الموسيقى. فعل ذلك بالسر عن والده، كان يخبئ كتب المعهد في كيس ورقي يتركه على مدخل المنزل.
شارك ملحم بعد ذلك في برنامج تلفزيوني خاص بالمواهب الناشئة، خضع لاختبار من كبار أهل الفن، وقد أجمعوا على امتلاكه موهبة نادرة. أثارت طبقات صوته العالية، معطوفة على قدرة استثنائية في الأداء، اهتمام كل من أصغى اليه. قادته الخطى لاحقاً نحو المدرسة الرحبانية التي تعامل معها بذكاء لم يتيسر لكثيرين غيره، خرج من القفص الرحباني بعد سنوات أربع، لكنه كان يقدم للأخوين الرحباني بعض الألحان بناء على الطلب. تحول إلى شريك عوضاً عن أن يكون تابعاً. يروي هنا أن صداقته لابن بلدته الفنان النادر فيلمون وهبي، كانت عاملاً حاسماً في قراره بمغادرة الجنة الرحبانية الواعدة. قال له في رحلة صيد: «أنت فنان موهوب وثمة الكثير في انتظارك. لن يعطيك الرحابنة الفرصة التي تستحقها، إن أفضل ما يسعك الحصول عليه هنا هو أن تكون نسخة عن نصري شمس الدين». كان لموهبته الموسيقية المتجذرة أن منحته ثقة بنفسه قلّصت من حاجته إلى الاعتماد على الوجبة الغنائية الجاهزة. سرعان ما تحول جواز مرور لعبور الآخرين نحو معترك النجاح. لحّن لكثيرين، وكان حصول أحد المغنّين ــ إحداهنّ غالباً ــ على لحن منه يعني دفعة مؤثرة نحو عالم الشهرة. لم يكن بوسع أكثر النقاد تشدداً إبداء ملاحظة حول لحن يحمل توقيع ملحم بركات، وظل وفيّاً لعادته الطفولية المشاغبة: يكفي لنص ما، مهما كان متواضعاً، أن يقترن بنوتاته الساحرة حتى يصير علامة إبداعية مسجلة. بعض ما تميز به ملحم أنه أدرك حقيقة كونه عبقرياً، ولم يسع ــ مدفوعاً بوهم التواضع الزائف ــ أن يخفي ذلك. استغل قدراته حتى آخر رمق إبداعي، لم يدار النزق المصاحب عادة لذوي الموهبة الحقيقية، ولم يحاول ضبط إيقاع مزاجه وفقاً لمقتضيات العرض والطلب، فكان، كما يستحق، متفرّداً، لا يشبه إلا نفسه.
رحل ملحم بركات تاركاً مساحة شاسعة من الفراغ العاطفي والفني والموسيقي لا يبدو أنها قابلة لأن ترمم بعده. في ذمة الذاكرة الجامعة أيها الفنان الملهم.