هذه الطبعة العربية الثانية من مسرحية «الهلاك» أقدمها تحية إلى الراحلين، الحبيب محمد معتوق الذي كان له الفضل في ترجمتها، وكاتب النص الصديق جيم ألن الذي عانى ما عاناه من هجمات صهيونية إعلامية في كبرى الصحف البريطانية والأميركية وتهديد في لقمة عيشه، وبقي مصراً على عدم تغيير حرف واحد فيها. والتحية مرفقة بترجمة النص الأصلي كاملاً، وقد عثرت عليه بعد بحث دام سنوات، إذ تعرض للسرقة والتوزيع مشوهاً، مع نقد قاسٍ شنه كتاب وصحافيون صهاينة على ألن، اختفى بسببها من الأسواق والمكتبات.خلال البحث عن الأصل غير المشوه وغير المحذوف منه (المحذوف لا يتعدى المئة كلمة)، وجدت أن طبعته العربية الأولى موجودة على «غوغل» والغلاف بالتصميم ذاته الذي اعتمدناه أنا ومعتوق، والألوان ذاتها، مع عبارة «الناشر خاص». علماً أن الغلاف يحمل اسم «الخطاط» ناشراً، واسمي بعد اسم معتوق مترجمين. وهذا مفهوم، فقد تعرض النص العربي للقرصنة في غير عاصمة، منها تونس والكويت. كما أن الناقد السينمائي أمير العمري، وكان يعمل في جريدة «القدس» اللندنية، أصدر كتاباً عن السينما البريطانية ضمنه نص المسرحية كما نشرناه من دون الإشارة إلى المترجمين، باعتبار أنّ ألن كتب أفلاماً عدة أخرجها صديقه المبدع كِن لوش الذي أخرج «الهلاك» أيضاً، ووقف إلى جانب كاتبها في مواجهة الحملة الصهيونية. وأطلعني أمير على ذلك، ثم أهداني نسخة من كتابه، لكنني في ذلك الوقت لم أعر الأمر أي اهتمام فكل همي كان أن تنشر المسرحية، مقرصنة أو غير مقرصنة، خصوصاً أننا، لا معتوق ولا أنا، استطعنا تسويقها عربياً. هي إذن ضغوط صهيونية تعرض لها ألن تمثلت في حملة إعلامية لم يسبق أن تعرض لها عمل مسرحي في أوروبا وأميركا من قبل، وضغوط عربية تعرضت لها مسرحيته تمثلت في تجاهل الترجمة. وليست المرة الأولى التي يلتقي فيها عرب مع الصهاينة، فتاريخ الصراع مع العدو مليء بحوادث مماثلة، وبما هو أخطر بكثير من التلاقي على معاداة كتاب. ولإعطاء مثال واحد، من مئات الأمثلة، على هذه الضغوط سأكتفي بما قاله ألن في مقابلة أجرتها معه الصحافيتان في «وورلد سوشياليست»، باربرا سلوتر وفيكي شورت عام 1995. قال: «نشرت صحيفة «نيو ريبابليك» الأميركية نقداً للمسرحية من 20 ألف كلمة تتهمها بتزوير التاريخ والوقائع وباللاسامية (تهمة يحاكم عليها أي شخص بموجب القوانين البريطانية والأميركية) فكتبت رداً من ألف كلمة وأرسلته، لأفاجأ بأحد أعضاء هيئة تحرير الصحيفة يبلغني أن الرد وصل لكنهم سيعاملونه مثل رد أو رأي أي قارئ وسينشرون منه مئة كلمة في بريد القراء». أما لماذا هذه الحملة التي أدت إلى اختفاء الكتاب من السوق فالأسباب كثيرة، أوضحها ألن في المقدمة التي كتبها خصيصاً للطبعة العربية الأولى، وهي مثبتة في هذه الطبعة، كما أوضحها معتوق في مقدمته، ويمكن الرجوع إلى المقدمتين لمزيد من التوضيح والمعلومات وللوقوف على طبيعة المسرحية التي كتبها ألن بناء على وثائق محاكمة الدكتور رودولف كاستنر في إسرائيل عام 1953، وهو أحد قادة الحركة الصهيونية في هنغاريا، بتهمة التعاون مع النازيين مقابل إنقاذ مئات من أقربائه من بلدته «لوج» (كانت تابعة لهنغاريا قبل الحرب العالمية الثانية، وهي الآن تابعة لرومانيا) والتضحية بأكثر من أربعة آلاف يهودي غير صهاينة وإرسالهم إلى غرف الغاز. وكان تعاونه مع القائد النازي المعروف أدولف أيخمان الذي سمح لآلاف الصهاينة بالرحيل إلى فلسطين.
هذه الوقائع لم تؤثر في البناء الدرامي لـ «الهلاك»، فألن خبير في تحويل الواقعي إلى قيمة فنية راقية من دون أن يفقد واقعيته، وخبير في عدم الوقوع في أسر الوثائق والخطابة الأيديولوجية. ولم يكن هدفه مجرد عرض مسرحي لحادثة تاريخية، بل محاكمة الصهيونية أخلاقياً من خلال محاكمة كاستنر والدكتور يارون، وإعادة طرح مسألة الصهيونية، من وجهة نظر يسارية أوروبية حديثة متقدمة، بعيداً من طروحات اليسار التقليدي المتعاطف مع إسرائيل باعتبارها دولة اليهود المضطهدين، انطلاقاً من عقدة ذنب تاريخية. وهو يقترب برؤيته هذه من رؤية معتوق الذي كتب في المسألة اليهودية، انطلاقاً من مفهوم قومي اجتماعي، بعد دراسته أنطون سعاده والعودة إلى مراجعه في «نشوء الأمم»، مثلما كانت رؤية ألن مبنية على الفكر الماركسي، بعيداً من قراءة الأحزاب الشيوعية الرسمية. وهذا دليل كاف على أن الالتزام لا يتعارض مع الإبداع الفني أو الفكري، على ما يدعي كتاب يمينيون. فألن الملتزم قضايا الإنسان، وصديقه المخرج لوتش أبدعا في السينما أيضاً، وكانا ملتزمين، من دون أن يؤطرهما حزب أو نقابة أو جمعية.
خلص ماركس في كتابه «المسألة اليهودية»، وهو من أول مؤلفاته، إلى أن تحرير السياسي من الديني، يحرر السياسة والدين في آن معاً، ويحرر الإنسان. ورأى أن مطالبة اليهود الدول الأوروبية، خصوصاً ألمانيا، بأن تعاملهم كجماعة دينية لها خصوصيتها لن يحررهم، فالدولة الدينية المسيحية التي كانت قائمة في القرن التاسع عشر لا تتيح لهم ذلك، معتمدة على التأييد الشعبي للأكثرية المسيحية. كما رأى أن الدين اليهودي عملي والصراع مع الدول المسيحية ليس صراعاً دينياً روحياً، بل صراع اقتصادي مالي، وصراع على النفوذ.
على كل، ليست هذه المقدمة بحثاً في المسألة اليهودية والنظرة الماركسية إليها، بل أوردت هذه الخلاصة للإضاءة على خلفية ألن اليسارية، وتمرده، وهو عامل المنجم الذي درس على نفسه وأصبح من أكثر المثقفين تحرراً من المفاهيم السائدة، بما فيها المفاهيم اليسارية التقليدية، وغير اليسارية التي ناصرت الصهيونية وما زالت تناصرها باعتبارها التجسيد السياسي لليهودية. وهو في «الهلاك» يطالب اليهود بالتحرر من الصهيونية أي بتحرير السياسي من الديني. ومعروف أن الدول الإمبريالية، حتى بعدما أصبحت علمانية، ناصرت الصهيونية، ودعمتها بكل الإمكانات، لإبعاد مواطنيها اليهود الذين شكلوا بعد الحرب العالمية الثانية، وقبلها، عبئاً عليها ومنافساً قوياً للطبقة الرأسمالية المهيمنة، بعدما أصبحت أوروبا المسيحية "يهودية" بالمعنى المادي، أي تحولت المسيحية إلى دين "عملي"، خصوصاً بعد «الثورة» البروتستانتية.
في بلادنا، جاء تسييس الدين بشعارات «الإسلام دين ودولة»، و«الإسلام هو الحل». لكن اللجوء إلى الدين أحيا خلافات مذهبية قديمة، وأوقعنا في خطر تهويد الإسلام مثلما تهودت المسيحية الغربية، إذ عدنا إلى مفهوم الرعية بدلاً من الشعب، وانقلب مفكرو الإسلام السياسي على النهضويين الداعين إلى إقامة دولة علمانية مدنية ديموقراطية لا تفرق بين دين وآخر. ففي ظل الشعارات الدينية، عاد الداعون لإحياء الخلافة إلى ممارسة التوحش من قتل وذبح وسبي نساء والتجارة بهن، كأنهم لم يرتقوا إلى المرتبة الإنسانية. تماماً مثلما مارست إسرائيل القتل والذبح والتهجير، زاعمة أنها تنقذ اليهود واليهودية.
فهم تقدمي وواعٍ جمع محمد معتوق وجيم ألن إزاء المسألة اليهودية

كتب ألن في مقدمة «الهلاك» للطبعة العربية الأولى: «... إن ادعاء إسرائيل الأخلاقي ملكية أراضي الفلسطينيين المسروقة مبني على أساس المحرقة، وكما تقول المسرحية ان إسرائيل كلب حراسة مأجور. إنها بنيت على أساس شعور الغرب بالذنب تدعمها الدولارات الأميركية».
هذه رؤية ألن لإسرائيل. منها انطلق ليجري أبحاثاً عدة يبني عليها مسرحيته، وكان يتوقع العاصفة التي أثارتها، لكنه لم يكن يتوقع أن يقدم مسرح «رويال كورت» في لندن على منعها. وكان يعرف مدى تأثير الصهاينة في المؤسسات الثقافية ووسائل الإعلام في أوروبا وأميركا، لكنه لم يكن يعرف أن منع عرضها سيصل إلى برودواي في نيويورك. وكان مستعداً، على ما قال لي قبل رحيله بشهور معدودة عام 1999، للمحاكمة بتهمة معاداة السامية ونكران المحرقة. فقد وجهت إليه التهمتان في الإعلام. لكن أحداً لم يدع عليه بهذه التهمة أمام المحاكم، عدا شخص اسمه ناثان درور (ناثان شفالب سابقاً) ادعى عليه بتهمة التشهير، وبناء على ذلك قررت المحكمة حذف المقطع المتعلق بهذا الشخص في انتظار البت في المسألة، فحذفناه من الطبعة الأولى، ونثبته في هذه الطبعة، بعدما انتهت القضية.
ولدى ألن تفسير منطقي لعدم الادعاء عليه، فمجرد وقوفه أمام قاض نزيه، أو متحيز، ستتحول المحاكمة إلى عرض للمسرحية، لكن في قاعة محكمة حقيقية، وليس على خشبة المسرح، ما يتيح له فرصة ثمينة للدفاع عنها والعودة إلى الوثائق التي تثبت، من دون أدنى شك، عمالة قادة صهاينة للنازيين. وكانت المنظمات الصهيونية أذكى من أن تقع في هذا الفخ، فاكتفت بالحملة الإعلامية وتشويه صورته باعتباره معادياً لليهود.
انطلاقاً من هذا الفهم ومن هذا الموقف المتقدم المعادي للصهيونية كتب ألن مسرحية «الهلاك». وهو يقترب بذلك من فهم معتوق لهذه المسألة، لا بل يتطابق معه في مواضع كثيرة. ومعتوق ينطلق من المفاهيم القومية الاجتماعية التي جدد بعضها في كتاباته الأخيرة، قبل رحيله عام 2005. وهذا بعض مما كتبه في المسألة اليهودية: «... لا مشكلة بين سورية والعرب، من جهة، واليهود غير الصهيونيين، من جهة أخرى. فليست قضيتنا قضية عرقية ولا دينية، فليؤمن من يشاء بما يشاء وكيف يشاء. أما خلوص العرق، فلم يعد حتى اليهود يدعونه... إن إسرائيل صنيعة استعمارية لا قدرة لها على البقاء إذا غابت الحماية الإمبريالية الأميركية. وسيبقى اليهود تحت هذه الدولة جالية أجنبية، وجماعة وظيفية (كلب حراسة بتعبير ألن) تقوم بأعمال الغرب القذرة ...» (محمد معتوق «فلنجرب هذا الرجل - دراسات وأبحاث في فكر أنطون سعادة»، اختارها وقدم لها علي حمية، وصدرت عن دار الفرات عام 2013). هذا الفهم التقدمي الواعي المشترك بين معتوق وألن للمسألة اليهودية، نتجت عنه قراءة عميقة لكاتب «الهلاك» انعكست على تطور شخصيات العمل المسرحي، خصوصاً الشخصيات الرئيسية كالدكتور كاستنر وروث التي ادعت عليه بتهمة العمالة للنازيين والتضحية بآلاف اليهود، وإرسال آخرين إلى فلسطين أو المحرقة. الفهم المشترك للمسألة اليهودية أتاح لنا تقديم ترجمة عربية، أعتقد بأنها في منتهى الدقة، فهي حرفية، من جهة، ونقل لروح النص الأصلي من جهة أخرى. يبقى أن أدعو المسرحيين العرب إلى قراءة هذا النص وتجسيده على الخشبة، وكان الحري بمسرحيينا ومثقفينا إبداع مثله. كما أدعوهم إلى كتابة نصوص مماثلة بجرأتها لمحاكمة الملوك والرؤساء العرب لثبوت تعاونهم مع الصهيونية، ونزع «الحصانة» الدينية البطريركية التي يتمتعون بها، وليس أكثر من الوثائق التي تدينهم. أو فليحاكم مسرحياً، على الأقل، مثقفون يدعون العلمانية (مثل العلمانيين كاستنر ويارون في مسرحية ألن) فقد ساند هؤلاء العرب الصهيونية، وبرروا احتلال فلسطين إشفاقاً على اليهود الذين تعرضوا للمحرقة، وللاضطهاد النازي والفاشي في أوروبا، كما زوروا وأخذوا على العرب (أي عرب؟) وقوفهم إلى جانب ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، مستشهدين بلقاء الحاج أمين الحسيني هتلر، فكان هذا اللقاء كافياً ليدافعوا عن الصهيونية، وليدفع الفلسطينيون بلادهم ثمن هذه «الخطيئة».

(*) مقدمة مصطفى زين تتصدّر الترجمة العربية التي قام بها مع الصحافي الراحل محمد معتوق، لمسرحية جيم ألن «الهلاك - محاكمة مسرحية تاريخية للصهيونيّة» (1987)، وقد صدرت عن «دار الفرات» في بيروت