«تعوا تا نتخبا من درب الأعمار/ وإذا هني كبروا نحنا بقينا زغار». فيروز غنت بامتياز العلاقة بالزمن الهارب. أغنياتها تكثيف للزمن، عودة به الى الوراء، او تجميده عند اللحظة السعيدة: «بدي ارجع بنت زغيرة على سطح الجيران/ ينساني الزمان/ على سطح الجيران». ولا نبالغ اذا كتبنا اليوم إن فيروز فنانة عابرة للزمن، فنانة تعيش خارج الأعمار... ستبقى دائماً نهاد حداد، تلك الصبية الخجولة التي اكتشفها الاخوان فليفل، وادخلاها الاذاعة الوطنية، لتخطو هنا خطواتها الاولى مع حليم الرومي، الذي اختار لها اسم «فيروز»، قبل أن يحدث اللقاء الحتمي الذي جعل منها الاقنوم الثالث في العمارة الرحبانية. لكن هذه الصحوة الفجائية في الاعلام، هذا التسابق على الاحتفال بعيد ميلادها الحادي والثمانين اليوم، عشية عيد الاستقلال، يستحق التوقف عنده قليلاً. هل هي عودة الامل والطمأنينة الى اللبنانيين الذين يشعرون بانهم اقتربوا من نهاية النفق، بعد المنعطف الرئاسي، ومن خلال الدينامية نفسها يستعيدون الرموز التأسيسية لهويتهم المشتركة؟ أم بالعكس: لعله التشاؤم من المستقبل، والتمسك في هذه الدوامة التي تلف المنطقة، بآخر ما تبقى لنا من رموز كياننا وشخصيتنا وهويتنا ووحدتنا الوطنية؟ لعلها تعويذة تمسك بالحياة واحتفال بها، ضد الشائعات المشؤومة والبليدة التي تنتشر بين حين وآخر. لعلّه الخوف من النهايات. فقدنا وديع وصباح... ما زالت عندنا فيروز، بشبابها الدائم لتحمل لنا الأمل. بهذا المعنى يمكن أن نعتبر أننا نحتفل اليوم بعيد فيروز الثمانين، مع «بعض» التأخير. لقد نضجت اللحظة كي ننتبه الى هذا العيد، ونعي ابعاده الرمزية: العاطفية والوجودية والوطنية والذاتية!
كأن الجماعات المتناحرة تعود الى نفسها فجأة، وتروح تبحث عن مقومات وجودها فلا تجد أمامها إلا فيروز. بيننا وبين فيروز ليست مسألة أرقام، في كل الأحوال. كل يوم نحتفل بها. فهي ملاكنا السري، شفيعتنا الوطنية بعدما عزّت الاوطان، وندرت الرموز الجامعة، العابرة للخنادق والانقسامات. نعم فيروز توحدنا، ونتوحد فيها. بصوتها واغنياتها وتاريخها الذي يكاد يكون تاريخ لبنان الحديث، المطل على براكين العرب واحلامهم ونضالاتهم وجراحهم. عيد ميلاد فيروز، عشيّة ذكرى الاستقلال، يمكن أن يكون، يجب أن يكون عيداً وطنياً. مناسبة لإحياء هذا الارث العظيم من الاغنيات والمسرحيات والاسكتشات والافلام والشخصيات والوجوه والحكايات ويوميات الكواليس واصداء الاعلام... اعادة كتابة السيرة وقراءتها. لا تعطى أمة كل يوم فنانة كفيروز. السيدة-الصوت التي تماهى معها الملايين من المحيط الى الخليج، بدءاً بسوريا التي فتحت لها قلبها منذ بداية المشوار. السيدة الايقونة التي ترقى الى الاسطورة.
لكن فيروز التي تقف خارج الاعمار، هي أسطورة حية، وفنانة من لحم ودم. إنها تجمع بين أكثر من حياة. نراها، من هنا، بالأبيض والأسود في لقطات من الخمسينيات ثم الستينيات، بين بعلبك والأرز ومعرض دمشق الدولي... نراها في مسرحيات مرجعية سبقت الانهيار الكبير: «جبال الصوان» و«المحطة» و«فخر الدين» و«لولو» و«ميس الريم»... هناك الثالوث الرحباني الذي تماهت معه بصوتها وصورتها. وهناك ملحنون وشعراء كثر من خارج الثالوث. كتبوا لها الروائع. يكفي أن نستعيد الاغنيات التي وضعها لها فليمون وهبي، وزكي ناصيف... من دون أن ننسى موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب. كل ذلك وصولاً إلى ولادتها الجديدة على يد زياد. سبع اسطوانات وضعها لها الابن الرهيب للمؤسسة الرحبانية، تأليفاً واعادة توزيع لكنوز عاصي. منذ «وحدن» (1979) بعد عام على انفصال عاصي وفيروز... إلى «إيه في أمل» (2010). زياد أعاد خلقها، أنزلها إلى الشارع، لتحكي بلغته وتقول كلاماً فجاً صدم «المحافظين» لفترة، قبل ان تندمج اعمال المرحلة الاخيرة، بمنتهى الطبيعية، في التراث الفيروزي.
واليوم إذ نطالب فيروز بأن تعود الى الأضواء بعمل جديد، ينضح شباباً، وربما بالوقوف مجدداً على الخشبة، نعرف أنها لن تفعل ذلك الا مع زياد الرحباني. هناك مجموعة أغنيات جاهزة، حازت اعجاب السيدة، منذ عام 2010 . ما الذي ينتظرانه إذاً؟ لن يسعنا الانتظار كثيراً! هل نتوقع الاسطوانة الجديدة في عام 2017؟ وليكن العام المقبل ايضاً عام التكريم الوطني لفيروز. في إطار احتفال عالمي ضخم يندرج بين أولى المبادرات الكبرى في عهد الرئيس ميشال عون.