لم أزل أذكر تلك اللحظات - طيفاً- تمر كأنها شيء من الريح الزكية، التي تنثر نفحات من طلب المعرفة، في قاهرة المعز لدين الله الفاطمي، وترددي إلى المعاهد واروقة الدرس هناك. كانت أول معرفتي بالاستاذ الدكتور عبد المنعم تليمة (الصورة) - رحمه الله ـ يوم جاء إلى كلية دار العلوم، أستاذاً مناقشاً لإحدى الطالبات العمانيات اسمها سناء الجمالي - إن لم تخني الذاكرة - وكان المشرف عليها أستاذنا الدكتور شفيع السيد عضو مجمع اللغة العربية والأستاذ في كلية دار العلوم في جامعة القاهرة أطال الله في عمره. كانت تلك المشاهد المنفعلة في مناقشة علمية رصينة كفيلة بأن تشغل بال الفتى البرعم في السنة الأولى.
لم يكن الدكتور عبد المنعم تليمة محاضراً اعتيادياً، بل ظل يتمتع بأسلوب أخاذ في المحاضرة وإلقاء الخطب، مما جعلني أتتبع مجالسه المختلفة، ولكلفي به صرت أحضر محاضراته، في كلية الاداب في السنة الثالثة والرابعة، في مادتي النقد الأدبي والأدب المقارن. يدخل الدكتور تليمة المحاضرة، ثم يصمت ويضع يده على منتصف أنفه، يطرق برأسه برهة يتأمل ثم يبدأ الطلاب بالهدوء، يفاجىء الطلاب بافتتاحيات غير معهودة، على سبيل التمثيل، قائلاً: أما أنا أيا العلاء كان عارفاً باليونانية فهذا وارد، لأنه كان من مثقفي عصره، وعليه فانه من الممكن أن يكون قد قرأ مسرحية «الضفادع» لأرسطو فانس، قال هذا ليستدل على تأثر أبي العلاء ويجعل تلك المسرحية اثراً من الاثار التي اثرت في رسالة الغفران. وفِي محاضرة أخرى يفتتح الحديث بموازنة بين أبي العلاء والمحاسبي بين رسالة الغفران والتوهم، قائلاً وعلى شيء من غير النمطية «الامام المحاسبي عالم. أما ابو العلاء فهو فنان تأثر بالعلم».
وفِي تلك المحاضرات، كان يبث بعض إرشاداته، ومنها يقول مشجعاً، الطلاب على مواصلة البحث والاجتهاد، فيقول حين كتبت بحثاً عن الادب اليوناني، وقدمته إلى الراحل العظيم الدكتور طه حسين، قال لي ادرس يوناني ولاتيني - وهو تخصص في كلية الآداب- فدرستُ يوناني ولاتيني. لقد درس اليوناني واللاتيني وهو دكتور له تلاميذه، وكان أثناء المحاضرة حين يسمع همساً، يتوقف مخاطباً الطلاب قائلاً: «أما أنا أتكلم وتسمعني، وأما أنت تتكلم فأسمعك والا صارت همجية». لم يكن الدكتور عبد المنعم تليمة وهو الاستاذ الكبير المتمكن المثقف ليقفل الباب على نفسه وينعزل، ويلتقي بطلابه في الدرس، بل كان لتلك الاستاذية امتدادات اجتماعية وعلمية.
لقد كنا نختلف إليه في كل ليلة جمعة، في شقته في شارع الطوايجي، في منطقة بين السرايات المجاورة للجامعة، لقد كانت تلك الجلسة متنوعة الحضور ومختلفة العطاء، مما أكسبها ثراء وأهمية، ولقد كنت احضر تلك الجلسة مبكراً، فأجده قابعاً في انتظار ضيوفه. انتهز تلك الفرصة لافتح معه حديثاً واسعاً عن تأملاته ومؤلفاته. وذات مرة، دار الحديث عن كتابه «مقدمة في نظرية الأدب»، فطلبت منه نسخة، فكتب عليها «إلى ابننا البار». لقد كان لهذا الحنو اثر كبير في التشجيع ومواصلة القراءة، ومحاولة البحث والسؤال.
لقد كتب الدكتور تليمة بحثاً حول الشعر السياسي في مصر، من ثورة عرابي الى ثورة ١٩١٩ ونال بذلك البحث درجة الماجستير، ثم كتب بحثاً عن نظرية الادب، ونال به درجة الدكتوراه وكتب مداخل الى علم الجمال الادبي، وأعاد نشر أستاذه الدكتور طه حسين «في الشعر الجاهلي» وقدم له بمقدمة إضافية مستفيداً بالافكار التي انتجتها اللسانيات الحديثة آنذاك.
لم يكن الدكتور عبد المنعم تليمة موالياً للسلطة في مصر، وقد اعتقل اكثر من مرة بسبب دفاعه عن الديموقراطية، وكان ثائراً دائماً وفِي الوقت نفسه كان متسامحاً وودوداً. لقد أبصرته مرة وقد رحب بزميل له في قسم اللغة العربية، غاب عن القسم لسبب ما واذا به يعانقه ويقول: الان بدأ العام الجامعي الجديد.
رحم الله الدكتور تليمة فقد كان علماً من اعلام المعرفة والتسامح والنبل، وأستاذاً ودوداً يحنو على طلابه ويود زملاءه.

* كاتب بحريني