الشارقة | إذا ركّز المرء عينيه على شخص بعيد غافل عنه، يستطيع في أغلب الأحيان أن يجعله يستدير ليلتقي بعينيه. وهذا في الواقع يكاد ينطبق على جميع الناس باستثناء النُدل في المطاعم، الذين أصبحت لديهم مناعة ضد هذا الأمر. لقد جاء بعضهم بتفاسير غريبة لهذه الظاهرة اليومية، غير أن تفسيرها البيّن أن البصر قوّة فاعلة.
إذا صحّ هذا على الرؤية الفيزيائية، فلمَ لا يصحّ على عين الخيال؟ الخيال يقفز ويسيل ويتشكّل وفق هواه على متن الفراغ الفاصل بين الرائي والمرئي. هذا العالم الواقع بين عالمين، هو المنطقة التي تهيم فيها النحاتة الجنوب إفريقية دينيو سيشي بوباب وتستنطقها في أعمالها. الأشكال هنا تتمرّد على مدلولاتها التي تحيل إلى الخارج، لتستقلّ بوجودها المجرّد وتعتمد على نفسها ككينونة وبناء وانعكاس روح. تعتقد الفنانة أن طقوس الفودو عجّلت من ثورة شعب هاييتي ضد الاستعمار الفرنسي. هناك شيء من الدادائية، وشيء من مارسيل دوشان وروبرت روشنبرغ، وشيء من التجهيز ومناخات الواقعية الفجة في عملها « +/- نصب تذكاري لثورة هاييتي 1791» الذي تم تكريمه في الدورة 13 من «بينالي الشارقة» التي اختتمت أخيراً.

إلا أن ذلك كله خاضع لانضباط أسلوبي ممزوج برغبة الفنانة في ترك أشكالها ومجسماتها في نوع من السكينة والعزلة الناصعة.
أما «العرش ضد مافافوكيي» للسويسري أوريل أورلو الفائز في البينالي، فيقدم علاقة المستعمِر بالمستعَمر، من خلال عمل تركيبي صوتي يستعرض حملة شعواء شنها المستوطنون ضد المداوين بالأعشاب في جنوب أفريقيا حيث تعرض احدى القنوات محاكمة أحد هؤلاء المعالجين المحليين في أربعينيات القرن الماضي بسبب تطويره وصفات طبية تجمع بين العلاج التقليدي الافريقي والطب الغربي الحديث. لن يندهش المتابع لمسيرة هذا الفنان عند رؤية عمله في البينالي، فهو يؤكد على إخلاصه لتجربته قبل أي شيء ورغبته في «اكتشاف الجزء المفقود من التاريخ». اهتمامه بالزمن حوله، جعله يتنقل بفنه بين الأحداث التاريخية المختلفة من دون توقف كأنه معاصر لها‏. آخر تلك الأحداث متعلق بمصر‏، إذ تناول معرضه الأخير حدثاً سقط من ذاكرة التاريخ المعاصر، وأراد أن يحييه مرة أخرى بفنه‏. بَحثَ عما يسمّى بالأسطول الأصفر، وهي السفن التي احتجزت في الممر الملاحي لقناة السويس في البحيرات المرة‏. وقد صادف وجودها في الممر اندلاع حرب يونيو بين مصر وإسرائيل عام ‏1967‏ وما تبعه من إغلاق للممر الملاحي للقناة‏،‏ مما أدى إلى احتجاز السفن الـ 14 لمدة ثماني سنوات حتى أعيد فتح الممر عام ‏1975.
تواجه أعمال الفنانة التركية إنجي إيفينير مخاوف داخلية عميقة. اشتغالها على كل الوجوه المشوشة هو جزء من بحثها حول أوضاع النساء في بلدها. إيفينير خطت لنفسها مذهباً فنياً فريداً ولافتاً يبدو أنه يعيد ترتيب الأحداث والوقائع المؤلمة انطلاقاً من بلادها وصولاً إلى الإنسانية بصورة عامة. لا يمكن الاختلاف على أن عملها «فتيات هاربات» (2015) الفائز في البينالي، الذي صوِّر في مستودع مهجور، ذو قوة بصرية دامغة. غناها يكمن في تلك اللعبة التي تلغي السطح والشكل، وتدفعك للبحث خلف هذه الوجوه التي يصعب الجزم بأنها حقيقية أم وهمية. الحقيقة الوحيدة هي الوجع. أمّا غير ذلك، فتبدو إيفينير حريصة على تشويه وتغريب الموضوع وجعله سديمياً بغرض تحويل عملية التلقي من شكلها العفوي والجمالي إلى تحفيز للمخيلة والفضول.
احتفى «بينالي الشارقة 13» بالفنان الفلسطيني الراحل علي جابري (1943 – 2002) من خلال عرض أعماله في فن الكولاج. أعمال تذكرنا بالألماني روشنبرغ الذي قدّم إنشاءات حرة من المواد الاستهلاكية اليومية كالأقمشة والزجاج وقصاصات الصحف والصور الضوئية ومواد الخردة. هو الذي وصل من باريس إلى نيويورك يحمل معه هدية لصديقه والتر ارنسبرغ (قطعة من باريس) لم تكن سوى زجاجة دائرية مغلقة معبأة بهواء باريس. كان يقول: «لا يهمّني الماضي أو المستقبل، أنا دوماً في الحاضر وأسعى للاحتفال به رغم محدوديّتي، باستخدامي جميع طاقاتي».
حذا الجابري حذوه واستدعى ضمن إطار أعماله أفيشات المشاهير، وأوراق المنتوجات الغذائية، والملصقات الدعائية والإعلامية، ولفتته الأبعاد البصرية والاستعارات الحيوية الجديدة التي يخلقها النقل والدمج والتحريف. في عمل أنجزه خلال حرب الخليج الثانية، نجده يجمع قصاصات مجلات تصور مسيرات لميليشيات ورموز القومية العربية، وعناوين أخبار... أغراض ومناخات نفسية ورسائل وهمسات غامضة أودعها في صناديق خشبية، لتتحول إلى أيقونات تشير إلى الهوية. هذه النزعة الاختبارية التي تلازم أعماله، تنطلق من ميل إلى التعرية والمساءلة، ليس فقط في علاقة هذه المواد بظرفها الجديد، بل أيضاً محاولة النفاذ إلى قناعات جمعية هزيلة.