ما يلفت في سيرة أحد آباء «القومية اللبنانية» أنه ولد في مراكش خلال الحرب العالمية الأولى. للمفارقة، ولد كمال يوسف الحاج (1916 ــــ 1976)، المشرقي، في أقاصي المغرب العربي، قبل اندلاع الثورة الروسية العظيمة بأشهر قليلة.
صار الرجل ما صاره لاحقاً، محبوب «حرّاس الأرز»، وشق طريقاً أكاديمية في الصروح اللبنانية يتوجب الاعتراف بها، بمعزلٍ عن أي خلافٍ مع أفكارهِ. كانت والدته بروتستانتية، وكما يقول أحد أبنائه كانت مبّشرة بنت مبّشرة، مفترضاً أن التبشير صفةً جيدة. ولعائلته تأثير كبير في شخصيته، إذ أن والده كان ماسونياً في أوائل عمرهِ، وسافر كثيراً، فصادق «آل سعود» وكذلك الملك فؤاد مصر. صداقات محترمة. يحق للناظر إلى سيرة العائلة أن يسأل إلى أي مدى أثرت صداقات العائلة ونمط عيشها الذي حاول أن يكون بورجوازياً طوال الوقت، في خيارات وكتابات كمال يوسف الحاج، وأبرزها «القومية اللبنانية»، أو ما أسماها صاحبها بـ «الفلسفة اللبنانية».
فلسفياً، بحث أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية في مشكلة «الجوهر والوجود»، معتبراً أنها مشكلة أساسية في «تاريخ الفلسفة»، بمعزلٍ عن الجديد الذي قدّمه في هذا الصدد آنذاك. اشتغل الحاج كثيراً على تفنيد التناقض بين الكوجيتو الديكارتي، وبين المباني السارترية (نسبةً إلى سارتر)، التي يسبق الوجود فيها أي شيء آخر، ومن دون أن يلغي ذلك اشتغالاته في أعمال برغسون التي تجعل الوجود لاحقاً للبقاء.
خلال عمله الطويل في الفلسفة، تصارع مع الديكارتية التي تؤله الجوهر وترفعه إلى ما فوق الوجود، وحاول تفسير سارتر الذي يقول بأولوية الوجود. إذاً، يمكن الحديث كثيراً عن جهد كمال يوسف الحاج في الفلسفة، لكن ما يطفو على سطح أعماله هو «القومية اللبنانية». في بدايته، ينقل عنه عداؤه لثلاثة مشارب رئيسية: الماسونية، الصهيوينة، وطبعاً، وكما كانت الموضة آنذاك، كان معادياً الشيوعية. وكان العداء لكلٍ من هذه يقوم على أسسٍ مختلفة، وحاول كمال الحاج جمعها وتأصيلها في «القومية اللبنانية».
وعلى ما يقول ابنه في مقالٍ له، كان جد كمال يوسف الحاج الأبعد من العاقورة، ومن آل الهاشم، وكان والده يتباهى بأصله الهاشمي، وأسهم في تأسيس رابطة للعائلة. في وقتٍ لاحق، وفي سياق تنظيره لقوميته اللبنانية، اخترع كمال يوسف الحاج مصطلحاً طريفاً هو «النصلامية»، يدمج فيه بين «النصرانية» وبين «الإسلامية»، من دون تحقيق حتى في الخلل التاريخي الكبير باستخدام كلمة «نصرانية» للدلالة إلى المسيحيين الحاليين. «نصلامية» كمال يوسف الحاج، برأيهِ، هي «زواج حضاري» بين النصرانية والإسلامية، لأن لبنان «ليس مسيحياً ولا مسلماً»، وهنا تقول «عظمة القومية اللبنانية، أي في الميثاق الوطني الذي حافظ على الطائفية». نعم، كمال يوسف الحاج، يمدح الطائفية، لأنها تحافظ على «الزواج الحضاري». ويصح القول، بعد اجتراح شِعار «لبنان أولاً» العجيب، وبعد اجتهادات بعض الوزراء في ترسيخ الطائفية والاستمرار في اختراع اسمه «التوازن الطائفي»، يصح القول لكمال يوسف الحاج: «هيدا زمانك».
في أي حال، لم يؤطر الحاج، في أي من كتاباته، دفاعه عن الطائفية علمياً. فالطائفية التي دافع عنها، كان بإمكانها أن تندرج ضمن مصنفات بناء الهوية، كالعقائد والأصول الإثنية وغيرها من العناصر. الحركة الطائفية إن سادت في بلدٍ ما قد تصبح مشروعاً ناجزاً يتخطاه التاريخ ويتجاوز تبعاته العنفية، أي أنه مشروع شكلي. أكثر من ذلك، بل يمكن أن تلعب الهوية الطائفية دوراً في الجمع لا في التفرقة، عندما نتحدث عن تجارب خارج السياق العربي، الذي يتعامل مع «الطائفية» كمشروع تقسيمي دائماً، في إطار هجاء أخلاقي محق دائماً، لهذا النوع من الطائفية. ما يقوله الحاج أن «الدين متأصل في لبنان، وقوميتنا هي نتيجة عدة تيارات دينية تلخصها اليوم النصلامية، وحيثما الدين هناك الطائفية التي لولاها لما كان لبنان في شكله الحاضر».

اشتغل كثيراً على تفنيد
التناقض بين الكوجيتو الديكارتي، والمباني السارترية


بطبيعة الحال، يقفز عن علاقة كل طائفة بالدولة، وعن التاريخ العثماني للبنان. وعموماً، الفِكرة عن استمرار لبنان في الزمن، كما لو أنه «توقف» خلال الفترات الإسلامية، أو أنه استمرار لهوية قومية امتدت لآلاف السنين، هي فكرة، كما يرى المؤرخ وجيه كوثراني، «تميّز الكتابة التاريخية المارونية التي ارتبطت ــ بصورة ما ــ بالحركة المطلبية السياسية التأسيسية التي قامت خلال العقد الثاني من القرن العشرين، أي في المرحلة التي طرحت فيها مشاريع حسم مشاريع الدولة العثمانية، والبدائل الممكنة لها (1908 ــ 1920)». يترحم كمال الحاج على ميشال شيحا، الذي قال إن لبنان هو، وإلى وقتٍ طويل، بلد التسوية الطائفية، ويجب ألا نطلب منه لأن يعاكس طبيعة الأشياء، إذ من الأفضل له أن يعيش أعرج من أن يحطم أضلاعه». يعقّب الحاج: «لا فض فوه»، قاصداً شيحا، الذي كانت لديه مشكلة «أنطولوجية» ــ لسيرة الوجود ــ مع القادمين من الأطراف، لتلويث البلاد الناصعة نفسها، التي يتحدث عنها كمال يوسف الحاج.
في الواقع، ومن بين تحولات عدة تكومت فوق وُهُن السلطنة العثمانية، برزت النزعة القومية في الشرق بروزاً لافتاً، لأسباب عدة اجتهد المؤرخون في تفسيرها فاختلفوا حيناً واتفقوا حيناً آخر. فالشرق، أو المشرق بما يتخذه المصطلح من دلالة، متنوع طائفياً وديموغرافياً. وبسبب التجربة السيئة بين المثقفين ــ أو بين من يعرفون بالنخبة ــ مع «المركزية العثمانية»، وفي وقتٍ لاحق مع نزعة التتريك، تولدت رغبة نخبوية بالاتحاد قومياً ضمن المجتمع التعددي. على هذا النحو الهادئ، يمكن الوصول إلى مدخل لفهم القوميات الناشئة، وظهورها بشكلٍ يضمر قطيعة تامة مع التاريخ العثماني، أو يعاديه، بلغةٍ أسهل. نتحدث عن قوميات نشأت بسرعة، كفقاعات الصابون، واعتبرت أن الحكم العثماني مصدر الجمود في التاريخ العربي، وتالياً وجه قطعي وحاسم للاستبداد الآني في زمانهِ وزمان أفوله.
وفي هذا السياق، يمكن الحديث عن «قومية لبنانية»، قبل مقارنة هذه القومية مع أخواتها من القوميات الأخرى، وإن مقارنة كالأخيرة تستوجب أبحاثاً وشروحاً طويلة. لكن كمال الحاج، لم يقم وزناً لهذا. وإن كان كمال الصليبي يقول إنه في البداية، لا بد من حملة تنظيف عامة في بيوت العناكب المنسوجة داخل البنى الطائفية والمذهبية المختلفة في البلاد، لإزالة الأحكام المسبقة المضادة المتعلقة بماضي لبنان وماضي العرب، فإن الحاج، كان يلاقي جواد بولس، في قوله، إنه، «منذ فجر التاريخ وطوال التطوّر المتوالي عبر الألوف الماضية، تميّز سكان لبنان (مِن كنعانيين وفينيقيين) بذاتية جماعية قوية ذات صفات نفسية خاصة، وذات رسالة بجوهرها تجارية بحرية وثقافية تربطها جميعاً في خطوطها العامة قربى وثيقة بخصائص اللبنانيين الحاليين» (لبنان والبلدان المجاورة، جواد بولس، 1973).
في فترة كمال الحاج، كان الحديث ممكناً، عن قومية، وإن كانت مسوغاته اللبنانية تنطوي على نوعٍ من التذرع بالراهن. فتفسير الخروج من الرداء العثماني، ونشأة لبنان، احتاج إلى مِثل هذه المحاولات. بمعنى أن الدولة اللبنانية، ليست صدفة، أو قطعة ناقصة من الأرض، إنما هي، برأي الحاج ومن يوافقه، كجواد بولس وغيرهما، دولة وارثة لقوميةٍ ناجزة في الزمن، ولديها المقومات القومية. وهذه «الفلسفة»، عفا عليها الزمن ومضى، وإن كان البطريرك الراعي، أو وزير الخارجية جبران باسيل، يجهدان في إعادة الاعتبار لها، بإعادة الاعتبار للجواز السفر اللبناني، واستعادة ملايين المهاجرين من قلب الكارنفال في ريو دي جانيرو، إلى ربوع الوطن الحبيب لبنان.
على غرار ورثته، كان كمال الحاج يرى أن «الإنسان كائن ديني أساساً، يعني لا وجود للالحاد، حتى الماركسية، فهي دين مقلوب». وهذه لم يسبقه أحد عليها، مثلها مثل قوله إن «السياسة كغيرها من النشاطات الاجتماعية تعبر عن دينية هذا الكائن فينا، فالدين نشاط اجتماعي أيضاً كسواه من النشاطات الاجتماعية، مما ساقني إلى عدم الإيمان بالعلمانية في مجالات السياسة». ولا قومية بمعزل عن تفسير ديني للكون برأي أحد أهم منظرّي القومية اللبنانية، واضع كتاب «الطائفية البناءة أو فلسفة الميثاق الوطني». «الفلسفة» التي انتهت بشعارٍ لحزب «القومية اللبنانية»، «حراس الأرز»، وما انبثق عنه، وما أفرزه من تيارات، يقول: «على كل لبناني أن يقتل فلسطينياً»، من بين سلسلة شعارات أخرى، يكاد المرء لا يصدّق أنها ما زالت مستخدمة إلى يومنا هذا!




الاثنين في «الأونيسكو»

تدور الندوة التكريمية لكمال يوسف الحاج حول دوره «في التعريف بأعلام الفكر الفلسفي الفرنسي». ويتحدث في اللقاء عايدة جهامي من الجامعة اللبنانية عن «كمال يوسف في ترجمته لبرغسون»، إلى جانب محمد العريبي، الذي سيتناول «علاقته مع فكر ديكارت»، إضافة إلى الباحثة باسكال لحود، التي ستتحدث عن «علاقته مع فكر سارتر». ويعتقد كثيرون، أن كمال يوسف الحاج كان من أوائل المطلعين اللبنانيين على الفلسفة، الذين تصدوا للجديد الذي أتى به جان بول سارتر، فانتقد المذهب الوجودي بشدة، في دراسة له عن «الالحاد عند سارتر». فلسفياً وفرنكوفونياً، كان الحاج، على ما يبدو، ميالاً لرينيه ديكارت، الذي وضع فيه كتاباً بعنوان: «ديكارت: أبو الفلسفة الحديثة» (منشورات دار مكتبة الحياة ـــ 1954). واختيار العنوان «الأبوي» لكتابه، بطبيعته البطريركية في مديح ديكارت، ينقله الأب يوحنا سليم سعادة في معرض استعادته للـ «فكر الماروني في التاريخ»، عندما يتناول إعجاب الحاج بما يسمّيه: «رجولة قلم برغسون» (!). في باريس، وبين الأعوام 1946 و1950، أي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية مباشرةً، تعرّف الحاج إلى ابنة برغسون، التي أهدته صورة لأبيها موقّعة بخطّ يدها. إلى ذلك، نشر الحاج كتاباً، أوضح فيه عصارة آرائه في الفلسفة، بالفيلسوفين الكبيرين بعنوان «من ديكارت إلى سارتر» (عويدات ـــ 1958).