تولي «أيام بيروت السينمائية 2017» اهتماماً خاصاً بالسينما التونسيّة. أمر طبيعي، مع الحضور النوعي لأشرطة بلد الحبيب بورقيبة في أهم مهرجانات 2016. جوائز كبيرة تتوّج تلك المشاركات، أبرزها أوّل فيلم في كلّ من «البرليناله» و«فينيسيا». عموماً، تفجّرت قرائح العديد من السينمائيين التونسيّين في أعمالهم الروائية الطويلة الأولى، ضمن «موجة ما بعد الثورة التونسية».
تقديم يقودنا بالضرورة إلى علاء الدين سليم، الذي عرض المهرجان البيروتي باكورته «آخر واحد فينا» (2016). في سجلّ الشريط، مشاركات دوليّة، وجائزتين من الموسترا 2016: «أسد المستقبل» لأفضل أول عمل سينمائي، وأفضل مساهمة تقنية ضمن «أسبوع النقاد». في «أيام قرطاج السينمائية 2016»، انتزع «التانيت الذهبي» ضمن مسابقة العمل الأول (الطاهر شريعة)، وجائزة «الاتحاد العام التونسي للشغل» لأحسن مصوّر في فيلم تونسي لأمين المسعدي، إضافةً إلى جائزة شبكة الشاشات العربية البديلة «ناس».

واقعية خشنة معجونة باللحم النيء، والصخور الجارحة، والسينما الصافية



منذ فيلمه القصير الأوّل «خريف» (2007)، انهمك علاء الدين سليم (1982) بتيمة الهجرة غير الشرعيّة، ليعود إليها بعد خمس سنوات في الوثائقي الطويل «بابل» (2012 - أخرجه بالشراكة مع إسماعيل الشابي ويوسف الشابي - الجائزة الكبرى للمهرجان الدولي للفيلم الوثائقي في مرسيليا). بالتوازي، ظهرت فكرة الروائي الطويل الأوّل. اختمرت عبر السنوات، لتخرج بمعالجة مغايرة، تمزج بين «جانرات» وأشكال فنيّة متعدّدة.
نحن في صحراء تونس. «نون» (جوهر السوداني) شاب أفريقي يقطع مساحات شاسعة نحو البحر المتوسط. يجابه مناخاً وأهوالاً وقطّاع طرق. يسرق قارباً، فيما يبدو طريق الخلاص، والوصول إلى «أرض الأحلام» على الضفة الأخرى. يضيع الرجل. يستيقظ، ليجد نفسه في جزيرة منعزلة عن البشر والعمران والحياة الحديثة. يصادف أفخاخاً، وحيوانات بريّة، وتقلّبات الطبيعة، ليصل إلى عجوز (فتحي العكاري)، يأخذ بيده إلى عالم لم يكن في حسبانه. هو الرجل Man بالمعنى الجمعي للكلمة. آدم الأخير. روبنسون كروزو بشكل طوعي. «آخر واحد فينا» حقاً.
من دون حوار، تنقسم بنية السرد إلى ما قبل الغابة وما بعدها. بينهما، عبارات مكتوبة مع أشكال هندسيّة لهيثم زكريّا، الذي يحوّر حروف الأبجدية العربية إلى أشكال موازية. «تقيّأتُ الجنس البشري» عبارة قاسية، تنطق بلسان حال البطل. تأخذ الفيلم إلى ما بعد اللجوء كقضية سوسيولوجية أو كارثة إنسانية. يصبح ملحمةً وجوديّة عن البشر والطبيعة، عن جذور الكائنات الأولى ومصائر ما بعد القيامة، عن الجسد/ الكينونة بحدّ ذاته بلا طبقات أو ترّهات. «الجسد المفقود»، الذي أرّق سليم طويلاً. كيف يمكن لإنسان أن يدفع حياته ثمناً لحقه الطبيعي في الانتقال من جغرافيا إلى أخرى؟ ماذا واجه لينتهي به الأمر إلى وجبة لأسماك القرش، أو في العدم؟ هنا، تأتي النهاية البديعة، التي تمسّ الاضمحلال، والتوحّد، والأسئلة المعلقة عن مآل الجنس البشري، في اقتراب من تيمة «ما بعد القيامة». لا غرابة في أنّ غسان سلهب صفّق طويلاً بعد العرض.
الشريط يجمع بين فيلم الطريق وفيلم الشخصية الواحدة. مزيج محبّب للصنّاع خلال السنوات الأخيرة. يتيح مستوى مغرياً في استكشاف المحيط والعالم تباعاً، من عيني بطل، قد لا يكون سوى أنا أخرى للمخرج ذاته. «آخر واحد فينا» واقعية خشنة معجونة باللحم النيء، والصخور الجارحة، والسينما الصافية. تجربة بصريّة – سمعيّة، تطلق عنان التفكّر، وإعادة الحسابات من جديد.
غير أنّ الفاصل الهندسي الآتي من عمل المخرج في الفيديو آرت، وصداقته مع هيثم زكريّا، لا يبدو منتمياً إلى مناخ الفيلم للوهلة الأولى. لكنّ «آخر واحد فينا»، كأيّ شريط محكم، ينجح في توريط المشاهد في عالمه. التغيير بين قبل وبعد، ينسحب على السينماتوغرافيا (أمين المسعدي) والتوليف (علاء الدين سليم) وشريط الصوت المبهر (منصف طالب، يزيد شابي). لقطات التجوال تنتقل من تفاصيل صغيرة يرصدها السوداني، إلى البانوراميك لإظهار ضآلته وتوهانه في عالم لا يرحم. في الغابة، تظهر القطعات القريبة، كدلالة على استقرار الرجل وتحققه بشكل ما. نسمع صوته كذلك. تسخير الضوء الطبيعي منسجم مع بقيّة العناصر. في المحصّلة، تفرض الأسئلة نفسها: من نحن حقاً؟ كيف أصبحنا هكذا؟ ماذا نفعل على هذا الكوكب؟