هل نحن سذّج، أم أنّ بعضَ الشركات "يستسذجنا"؟كلّما دقّ الكوزُ بالجرّة جاء مَن "يهدينا" إلى كيفيّة التعامل النبيه مع العالم الحديث، وفق ثلاثيّة الواقعيّة والصورة والسرعة: هذه "الأصوليّة" الجديدة التي يُفترض أن نخرَّ لها ساجدين.

واليوم، جاءت الشركات لـ"تهديَنا" إلى ماهيّة التطبيع، وما ليس بتطبيع!
فقد ردّت شركتا Tomorrowlandو Entertainers SAL على موقع المنار، فزعمتا أنّ الحفل الضخم المزمعَ قيامُه في 29 تمّوز في 8 بلدان، بينها لبنان (جبيل) و"إسرائيل" (تل أبيب)، ليس تطبيعًا. والسبب؟ السبب الذي قدّمتاه هو أنّه لن يكون ثمّة "بثّ مباشر بين لبنان وإسرائيل".
لا بأسَ بهذا التوضيح؛ فهو يدلّ على تهيّب الاتصال المباشر بـ"إسرائيل"، ولو عن طريق الفنّ، خشيةَ إثارة "حفيظة" الرأي العامّ. ويدلّ أيضًا على أنّ ثقافة مقاومة التطبيع تَحْفر ـ ببطءٍ لكنْ بثبات ـ في عقول اللبنانيين، بما يتجاوز دعايات العولمة والواقعيّة.
غير أنّنا لو عدنا إلى موقع Tomorrowland فسنقرأ الآتي (باللغة الإنكليزيّة):
"كونوا جزءًا من السِّحْر. اتّحدوا مع أرض الغد Tomorrowland. يا شعوبَ الغد، استعدّوا للاتحاد مع أرض الغد. السبت، 29 تمّوز، سيحصل اتحادٌ سحريّ مع: دبيّ ـ ألمانيا ـ إسبانيا ـ لبنان ـ تايوان ـ مالطا ـ كوريا الجنوبيّة ـ وإسرائيل."
وعلى صفحة "الترحيب" على الموقع نفسه جاء ما يأتي (بالإنكليزيّة أيضًا):
"إنّ الاتحاد مع أرض الغد هو أكثرُ من بثٍّ مباشر؛ إنّه عرضٌ فريدٌ يتيح لكم الهروبَ من الواقع" (it’s a unique show that allows you to escape reality).
نحن، إذن، إزاء ما يتخطّى التطبيع (normalization) بين دولٍ لا ترتبط اثنتان منهما على الأقلّ بعلاقاتٍ طبيعيّة، ونقصد: لبنان و"إسرائيل" طبعًا... هذا إذا استثنيْنا دبيّ المطبِّعة مع دولة الاحتلال الصهيونيّ على غير صعيد. بل نحن، في الحقيقة، أمام "مانيفستو" أمميّ جديد، لكنّه بائس وفقير وغاشم، شعارُه ليس "يا عمّالَ العالم ويا أيّتها الشعوبُ المضطَهَدة اتّحدي"، بل... "يا أيّها القاتلُ والمقتولُ اتّحدا"!
فعلًا، Tomorrowlandلا تهدف إلى التطبيع بين البلدان، بل إلى ما يتجاوز ذلك بكثير: إلى وحدة العالم... لكنْ مع بقاء الظلم والاحتلال والعنصريّة والتهجير والقتل وتجاوزِ الأعراف الإنسانيّة والقانون الدوليّ.
لكنْ لنعدْ إلى التطبيع. ولنهمسْ في أذن الشركتين ما يأتي:
إنّ التطبيع، في مفهوم الشعوب المكتوية بالاحتلال، لا يقتصر على اللقاء المباشر، أو البثّ المباشر، بين لبنان و"إسرائيل"، على ما توهِمان (وتتوهّمان). التطبيع هو القبول بمساكنة القاتل، ولو على أرضٍ "فنيّةٍ" واحدة، وضمن "مشروع" إيديولوجيّ مشترك يتستّر بوحدة العالم والكون. بل إنّ التطبيع، في العمق، هو في مجرّد قبول مبدأ "الهروب من الواقع"، عبر مجالَي الفنّ أو الأدب أو أيّ مجال آخر (الرياضة، العِلم،...)، بدلًا من التصدّي لشروره ومظالمه. إنّ مَن يتوق إلى الهرب من الواقع، عبر هذه المجالات بشكل خاصّ، هو القاتلُ كي يواصل قتلَه، بلا حسيبٍ ولا رقيب؛ وهو يسعى إلى "جرّ" العالم من ورائه كي يُعِينَه على التغطية على أفعاله، وعلى إلباسِ وجوده المضمّخ بالدم ثوبًا قشيبًا من الحضارة والتقدّم والأنغام. أما نحن، الشعوبَ الخاضعةَ للاحتلال والتهجير والذبح، فنريد من الفنّ والأدب (بشكل محدّد) أن يسلّطا الضوءَ على الواقع الظالم الذي نعيشه... كي ندفنه إلى الأبد.
المطبِّعون، كما دعاةُ "وحدة العالم" بقاتليه ومقتوليه، يريدون أن يهربوا من الواقع كي يديموه، ويريدون أن يستغلّوا الفنّ والرياضةَ والأدبَ كي يؤبِّدوا الظلم. و"أرضُ الغد" التي يبشّروننا بها ليست إلّا أرضَ الحاضر، بكلّ مخيّماته وشهدائه ومهجّريه وبؤسائه. أما أرضُ غدنا، أرضُ الغد التي نريدُها ونقاتلُ من أجلها، فلن تكونَ فيها "إسرائيل" بل... فلسطينُ الحرّةُ الواحدةُ الكريمة، وقد عاد إليها شعبُها من مخيّمات البؤس واللجوء، ليعيش فيها عزيزًا شامخًا، وليعيد إلى حياتِه سيرورتَها الطبيعيّة التي انقطعتْ في العام 1948.
أرضُ الغد لن يكون فيها تعايشٌ بين الذئب والحمل، ولن يكون فيها تواطؤٌ بين ذئاب العالم على سحق مستضعفيه.
لذا، نقول للشركتين: إنّ البث المباشر أو غير المباشر تفصيل. المسألة هي في قبول منطق "أرض الغد"، والموافقة على استخدام الفنّ لحَجْب الواقع.
وأخيرًا، هل لنا أن نسألَ المنظِّمين اللبنانيين: ما الذي يَجمع جبيْل، التي تُباهي الأممَ بأنّها "بلدُ الأبجديّة والحضارة"... بتل ابيب، التي أقيمت على أنقاض يافا ومحيطها، بعد تهجير أهلها سنة 1949؟
*رئيس تحرير مجلة الآداب وعضو مؤسّس في حملة مقاطعة داعمي "إسرائيل" في لبنان.