هنا إدغار الملوّن الفطري، وهناك إدغار الرسّام المشكِّل على المساحات ما لا تراه عيناه، بل ما اختزنه قلبه وما يوحيه إليه حدسه.
«التشكيلي مثل الحكواتي يروي الحكايات! لكن لأي مدى سيفسر هذه الحكايات والقصص أو ينهيها، فهذا أمر يعود له. بطبيعتي، عندما أجد موضوعاً غير مفسّر ويلفه الغموض، أشعر أنّه يضفي سحراً على اللوحة، ويحافظ على مكامن الجمالية فيها. عندما لا نقدم تتمة للقصة، نشجع المشاهد بذلك على إكمالها على طريقته، ونجعله يشارك في صياغة مضمونها، فينتبه أكثر» يقول مازجي لـ «الأخبار»، شارحاً رؤيته إلى الأعمال التشكيلية.
لا يتوانى الستيني الهادئ عن الاستعانة بأي تفصيل لشرح رؤيته الفنية وسياق سرده التشكيلي، أكان عبر التنقّل بين لوحاته الزاهية التي يجدها تليق بصالة الغاليري التي يحبها، أو بأخذ كاتالوغ الأعمال واضافة أي معلومة قد تغيب عن ذهن المتلقي أو المشاهد، فيحيله ادغار «متفاعلاً»، كحال الجمهور مع المونولوجيست.
شخصيات شبه ثابتة في حركاتها، تملأ أجزاء كبيرة من بنيان لوحات مازجي، على خلفيات متعددة الألوان غالبها بالاكريليك، بتنويعات الأخضر والأزرق والبرتقالي كما الأسود. جرأة الريشة تنم عن حرفة في التجريد، يعترف بها مازجي بفرح وشغف: «أهم شيء بالنسبة إليّ هو هذا الحوار بين الفن التجريدي والفن التشكيلي، وأذكر التجريدي قبل التشكيلي لأنه أكثر أهمية بالنسبة إليّ. أبدأ لوحاتي كلها ببصمات تجريدية لا ترمز الى شيء. ولا أضع في فكري قصةً ولا أعرف ما ستؤول إليه. كل لوحة أبدأها هكذا، وأسأل نفسي: هل يمكن أن أصل إلى شيء؟ في كل مرة، أصل إلى شيء جديد. كيف ذلك؟ لا تسأليني. أتبع هذا النمط لأنّه يجعل لوحتي مفتوحة الاحتمالات حتى اللحظة الأخيرة». يأخذ قائمة الأعمال/ الكاتالوغ بيده، شارحاً: «هنا لوحة صوّرتها في السياق التدريجي لعملية التشكيل، منذ بدايتها إلى انتهائها. بدأت بشكل تجريدي بالمطلق، ثم تطورت، بقيت تجريدية ثم ظهر شخص مسطح. ثم اختفى هذا الشخص في المرحلة التالية. هناك أمور أخرى تحدث. بدأت المرأة بالظهور في اللوحة، ثم تغير لون شعرها، والبصمات في الوقت عينه تتغير. وفي النهاية يصبح لدينا طائر ينطلق من يديها. كل شيء يبقى دائم التحول حتى آخر لحظة! العصفور أتى في اللحظة الأخيرة فعلياً لأن يدها ممدودة. اللوحة قالت لي: أريد».
الأساس هو اللون
والشكل، وأيضاً القلب
التجريدي التفكيكي
إذاً كل ما في السياق قائم على تبادل الثنائيات الحوارية، بين الفنان واللوحة، بين نمطَي التشكيل والتجريد، بين لعبة السرد والتمويه، بين الوضوح والغموض النسبي، وبين اللون ومكمِّله. يعلّق: «اهتمامي الأساسي هو حوار بين الفن التجريدي والفن التشكيلي قبل أن يكون اهتمامي الصور. هذه الأخيرة تأتي كإضافة bonus ونتيجة للّعب بالألوان. لكن الأهم هو مناخ السكون والتأمل الذي نجده في معظم اللوحات. هو ناتج من الصورة ذاتها. في الوقت عينه، هناك ناحية أخرى هي العنفوان والاضطراب في ضربة الريشة التي تعطي حيوية وإيقاعاً للوحة. إذاً، من جهة هناك سكون الصورة عبر الأشخاص الساكنين في حركاتهم، ومن ناحية أخرى نجد حركية في الريشة، فيصبح لدينا نوع من التكامل.. وهذا ما أحبه».
يصغي مازجي إلى صوت لوحاته، ويطيع طلباتها. جو التأمل السائد في اللوحة هام جداً بالنسبة له، بل أكثر أهمية من القصة بذاتها. هو كالحكواتي يرصف الكلمات قرب بعضها، يرتجل ربما في كل مرة بطريقة مختلفة، يعيد بناء القصص مئات المرات، وكل مرة بأسلوب ونبرة مختلفين تماماً كضربات ريشته النابعة من حدسه وقلبه، دونما تفكير. هو أقرب إلى المسرح الارتجالي داخل اللوحة. فالسرد موجود، أي القصة، لكنها جديدة في كل مرة.
رسم مازجي لسنوات نماذج أمامه كما يقول لنا، فأصبحت عملية الرسم كاللغة التي نتكلمها بديهياً من دون أن نفكر فيها. بحرية مطلقة، يرسم الجسد واليد «من دون التفكير في التشريح الجمالي».
ضمن المعرض، هناك معرض ثانٍ، حيث يحضر الورق والفحم والتقنية العالية للرسام المتمكن. لكن المفارقة أنّ اللوحات الـ15 هذه صنعت كلها في وقتٍ واحد. يشرح مازجي لنا: «أعود دوماً إلى الرسم لأنه يغذّيني! نكتشف غالباً أموراً في الرسم نطبقها لاحقاً في اللون، وهذا مهم جداً. طوال حياتي، رسمت بالفحم ثم عدت بعدها إلى اللون. لقد صورت اللوحات هذه في سياق تطورها التدريجي، هنا 15 عملاً بالفحم، لا يمكن أن ينتهي واحدها قبل الآخر! أعمل عليها جميعاً في الوقت عينه، تدريجاً، ثم تأتي الصورة النهائية. هو كل متكامل، وكلها ضربات تجريدية بالكامل. غالباً لا يمكنني أن أعرف ماذا ستصبح عليه هذه اللوحة. هنا كان يقف رجل مع طربوش، لكنه اختفى.. وهناك كرسي اختفت أيضاً. يعني الأشياء تأتي ثم تذهب، تمَّحي. الامحاء بالنسبة لي بأهمية الرسم. الامحاء هو مكمل للرسم لا إلغاء له».
يمحيهم! هكذا يرسم. تماماً كحضور الكومبارس في المسرحيات، يمرون هنا، يعبرون، لكن ليس لهم حضور بنيوي. يمرون ليرحلوا فيكتمل المشهد.
هي هكذا القصص/ الحكايا... فكيف بالحكايا التي لم تروَ بعد؟ والأعماق التي لم تكتشف بعد؟
يختم مازجي: «أتابع هذا الحوار منذ سنوات بين التجريد والتشكيل. بالنسبة لي هذه تكملة، تتمة، متابعة. للاستكشاف؟ أجل، استكشف واتعمق أو اقله، آمل أن أكون على طريق التعمُّق».
«قصص لم ترو» لادغار مازجي: حتى 11 نيسان (أبريل) ـــ Art On 56TH (الجميزة) ـ للاستعلام: 01/570331