«الحياة ليست ما عشناه، بل هي ما نتذكّره، والطريقة التي نروي بها هذه الذكريات». بعبارة ماركيز الشهيرة في كتابه «عشتُ لأروي» (2002)، يفتتح هادي زكاك جديده «يا عمري» (82 د ــــ 2017) Wrinkles 104 . التسجيلي اللبناني (1974) يستعمل أكثر اقتباس معبّر عن سينماه، وفهمه للفيلم الوثائقي. المادة الحافظة للزمن والذاكرة، في وجه التحوّلات العاصفة.
الشكل الفنيّ المناسب لروي السوسيولوجي والتاريخي اللبناني، بكلّ إحالات السياسة وسجال الراهن، ضمن أسلوبيّة خاصّة بصاحبها. افتتاح الشريط بمرجعيّة ملائمة لمحتواه، ليس جديداً على عناوين زكاك اللمّاحة. ها هو يبدأ «مارسيدس» (2011 – أفضل وثائقي من لجنة تحكيم الاتحاد الدولي لنقّاد السينما «فيبريسكي» ضمن «مهرجان دبي السينمائي الدولي 2011»، جائزة الجزيرة الوثائقية لأفضل فيلم طويل ضمن «مهرجان الجزيرة الدولي للأفلام التسجيلية 2012» في قطر، الجائزة الثانية مناصفةً ضمن «لقاء نابل الدولي للسينما العربية» 2012 في تونس، جائزة Best Original Film في «مهرجان أوروبا الشرق للفيلم الوثائقي 2015» في المغرب، جائزة «اكتشف العالم» ضمن «مهرجان موناكو الخيري للسينما 2012») بما قاله أمين الريحاني يوماً: «الطائفيّة هي لفظة أخرى لحبّ الذات. الطائفيّة هي نوع من الخيانة الوطنيّة. في ضعف الطوائف قوّة الوطن».

نتيجة ساحرة في رصد تغوّل الشيخوخة، والانهيار المتسارع للذاكرة والجسد والحيوية


يشرع الشريط البيوغرافي «يا عمري» بالتعريف ببطلته. هي جدّة هادي زكاك «هنريات» التي تتجاوز قرناً من العمر. يتمّ ذلك من خلال تعرّفها إلى نفسها، وإلى حفيدها، الذي يعرض فيديوهات التقطها بنفسه، مذ كانت في سنّ الـ 84. يقفز إلى صورة جميلة بالأبيض والأسود، عندما كانت تبلغ 38. كموناليزا لبنانيّة من «الزمن الجميل»، تظهر «هنريات» بكامل الجمال والأنفة والأنوثة، مع ابتسامة خفيفة على الوجه. زكاك اتخذ الالتقاطة بوستراً للفيلم، لأنّه يريد التأكيد على أهمّ أسباب صناعته. إبقاء التيتا المتداعية في أبهى انطباع، ليراها الجميع كما هي في عيني الحفيد والعائلة. التعبير عن العرفان تجاهها. الرابط بينهما واضح منذ الصغر، إذ كان يكتب حكاياتها في دفتره. حبّ عابر للأجيال، يذكّر بـ «تيتا ألف مرّة» (2010، 50 د.) للبناني محمود قعبور، مع التقاء الوثائقيين في جوانب، وافتراقهما في كثير.
هكذا، يفصح الفيلم عن نفسه منذ البداية. شخصي، حميمي، عاطفي، وأقرب إلى خصوصيات صانعه من بقيّة عناوينه، بما فيها «هاني مون 58» (2013)، عن شهر عسل أمّه وأبيه في أوروبا، تزامناً مع اشتعال نزاع أهليّ في لبنان. الشريط المختلف يتطلّب عقليةً مغايرة عن المعتاد في فيلموغرافيا صاحبها. لذلك، تبقى معالجة «يا عمري» على قياس بطلته، من دون حذلقة أو تفرّع. ذكاء في الالتصاق بها، وعدم تحميلها ما لا طاقة لها به. حاجة إلى فيلم ذاتي مينيمالي «صغير»، بعد «ملحمة» وثائقية منهكة من 8 فصول، هي «كمال جنبلاط: الشاهد والشهادة» (2015 – أفضل وثائقي في الجوائز الفرنكوفونية للسينما 2016، أفضل إخراج وأفضل موسيقى وأفضل توليف في جوائز الأفلام اللبنانية 2016).
هذا لا يعني عدم إنعاش ذاكرة «هنريات مسعد عويس»، انطلاقاً من الذاتي إلى العام. شجرة العائلة منذ عام 1470، تأخذ إلى موجة هجرة اللبنانيّين العارمة إلى البرازيل، من أجل فرص عمل، وفراراً من التجنيد الإجباري. تقود إلى سير الأب والعم والأخوة، الذين كان لبعضهم اختراعات وإنجازات. مع تهاوي الذاكرة، تنقلب الأدوار. زكاك يحكي لجدّته عن عودتها من ريو دي جانيرو إلى بيروت عام 1933، عن حبّها لرجل، وزواجها خطيفةً من آخر، عن الأخوة والأبناء وتوالي الأيّام.
«من وين بتعرف كل هيدا؟» تسأل التيتا باستغراب محقّ. هي لا تدرك أنّ حفيدها حضّر نفسه جيّداً، قبل أن يتحدّث إليها. عاد إلى أرشيفه الشخصي تصويراً وتدويناً وتسجيلاً على الكاسيت. جلب سيرة ومستندات العائلة. لجأ إلى مراجع متخصصة، منها «تاريخ لبنان الحديث: من الإمارة إلى اتفاق الطائف» لفواز طرابلسي، و«معجم القرن العشرين: وجه لبنان الأبيض» لطوني ضو، و«تبليط البحر» لرشيد الضعيف. إنّه دأب زكاك في التدعيم التاريخي، مهما تطلّب من جهد ونبش. غالباً ما يبحث بمفرده. أحياناً يشرك آخرين، مثل الزميل محمد همدر في «كمال جنبلاط: الشاهد والشهادة» وغيره.
توثيق يستهدف، في معظمه، اليومي الاجتماعي الموازي للحدث السياسي المعروف. هادي زكاك هو أنا لبنانيّة حداثوية لـ «البديري الحلاق»، الذي أرّخ لحوادث دمشق اليوميّة منتصف القرن الثامن عشر. «شهرزاد» على هيئة تسجيلي محنّك. في «كمال جنبلاط: الشاهد والشهادة»، جاء التوثيق أكثر صرامةً وإنهاكاً ومباشرةً سياسيّةً، كونه بيوغرافيا عن شخصية معروفة، تمسّ حقباً وأسماءً ومنطقة برمّتها. هادي بارع على الضفتين. فنّان في اللعب بينهما.
معايشة نادرة يحققها الحفيد، الذي صوّر بطلته بين عامي 1992- 2013. نقطة ذهبيّة، عادةً ما تتوّج وثائقيات الشخصيات الحيّة، أو الأحداث المستمرّة. في التسجيلي البديع «أبداً لم نكن أطفالاً» (2015ــــــ 99 د.)، رافق المصري محمود سليمان أمّاً وأولادها على مدى 13 سنة. زكاك فعلها مع «هنريات» لفترة أطول، ما مكّنه من مقارنة حالتها وأقوالها بين اليوم والأمس. تعاقب مغرٍ بين الزمن الفيلمي والزمن الحقيقي. استعراض غير مقحم لوسائط توثيق وأنواع كاميرات، مثل 8 ملم وصولاً إلى الـ HD. النتيجة ساحرة في رصد تغوّل الشيخوخة، والانهيار المتسارع للذاكرة والجسد والحيوية، خصوصاً بعد عمر الـ 100. إنّه الفيلم «التسجيلي» بمعناه الدقيق. يحيل على معادل روائي هو «صبا» (2014 ـــــ 165 د.) لريتشارد لينكلاتر. ناحية أخرى تكشفها السنوات: هوس هادي زكاك المبكّر بالسينما الوثائقية. تفتح الوعي على حرب أهليّة طاحنة، يدفع الشاب إلى الهروب نحو العدسة. حصل ذلك مع صنّاع لبنانييّن كثر، مثل فيليب عرقتنجي (الأخبار 9/2/2017) وآخرين. يتوّج هادي الموهبة والهواية بالتحصيل الأكاديمي. ينال دبلوماً في الدراسات السمعيّة المرئيّة، من معهد الدراسات المسرحيّة والسمعيّة المرئيّة والسينمائيّة، في «الجامعة اليسوعيّة» عام 1997، ثمّ ماجستيراً في الإخراج السينمائي عام 2001. هو أستاذ هناك منذ عام 1998. لا يكتفي بذلك. ينخرط ضمن ورش عمل في الإخراج والتوليف والإنتاج، في كلّ من Fémis «المدرسة الوطنيّة العليا لمهن الصوت والصورة» عام 1996، وهي أكاديميّة السينما الأعرق في فرنسا، وINSAS «المعهد الوطني العالي لفنون الأداء وتقنيات البث» في بروكسل عام 1999، و«جامعة بابلسبيرغ كونراد وولف للسينما» في بوتسدام 2007، إضافةً إلى دول عربيّة وأفريقيّة.
على الصعيد العملي، يؤسّس شركة ZAC Films، التي يعمل باسمها ضمن «عائلة» مستقرة: السينماتوغرافيّة موريال أبو الروس، ومصمّم الصوت والمكساج إميل عوّاد، ومهندس الصوت مهاب شانه ساز، والمولّف إلياس شاهين، والمترجم مالك أبي نادر وغيرهم. يتكلّل المشوار بأكثر من 20 وثائقياً حتى الآن. يبدأ بإنجاز كتاب بالفرنسيّة عن تاريخ السينما اللبنانيّة بين عامي 1929 - 1996، بعنوان «السينما اللبنانية، مصير نحو المجهول» («دار المشرق»، 1997). أيضاً، يصنع عنها وثائقيي «سينما الحرب في لبنان» و«لبنان من خلال السينما» عام 2003. يقدّم «ألف ليلة وليلة» (1999 – الجائزة الأولى في Docudays بيروت 1999)، و«لاجئون مدى الحياة» (2006)، عن القضيّة الفلسطينيّة، ومعاناة اللاجئين في المخيّمات. يستكشف بيروت من عيون فنّانين وسائقين، في كلّ من «بيروت وجهات نظر» (2000)، و«تاكسي بيروت» (2011)، كما عواصم أخرى في «سندباد في بغداد» (2003)، و«تاكسي صنعاء» (2012).


تأتي ثلاثية «حرب السلام» (2007)، و«أصداء شيعية من لبنان» (2007)، و«أصداء سنيّة من لبنان» (2008)، عن الانقسام الأفقي والعامودي، وهواجس الشباب ما بعد عدوان تمّوز 2006. تكتمل إلى رباعيّة عن آثاره الاجتماعيّة والبيئيّة في «التسرّب النفطي في لبنان» (2007 – الجائزة الأولى ضمن «المهرجان الأوروبي والمتوسطي للأفلام المتعلقة بالبحر 2007» في إيطاليا). يتابع في التباين الطبقي والطائفي ما بعد الحرب الأهليّة. يصوّر «درس في التاريخ» (2009 - الجائزة الأولى ضمن «مهرجان الفيلم العربي في روتردام 2010») عن حصص التاريخ في المدارس، وعدم الاتفاق على منهاج تاريخ موحّد. يتابع بذكاء حاد حول لبنان منذ نهاية الخمسينيات، استمراراً إلى تشكّل وتكريس النظام الطائفي في «مارسيدس». يلحقه بقراءة بيوغرافية - تاريخيّة، من خلال «كمال جنبلاط: الشاهد والشهادة»، وصولاً إلى الذاتي والعائلي في «يا عمري». موقعه الإلكتروني http://www.hadyzaccak.com/ نموذج في الدقة والتوثيق. دليل على حرفية صاحبه، ومخّه المنظّم في العمل.
من البديهي أنّ بلداً معقّداً مثل لبنان، يعدّ «مغارة علي بابا» لهادي زكاك، والكاميرا التسجيلية عموماً. يمرّ اشتغاله على الوثائقي بثلاث مراحل: البحث، والتصوير، والبوست (طاولة المونتاج) المؤلّف من مرحلة أولى شخصيّة، وثانية مع المولّف ومصمّم الصوت. طبعاً، كلّ شيء في خدمة الموضوع. أيّ كادر قديم، أو حرف، أو مخطوط، أو أسطوانة، أو كاسيت... لكلّ شريط أسلوبه وصورته وتحضيره السيناريستي، من دون الإخلال بذاتيته المعروفة.

كأننا به نسخة لبنانية من «البديري الحلاق»، الذي أرّخ لحوادث دمشق اليوميّة منتصف القرن الثامن عشر


في «يا عمري»، ينساب السرد من خلال كلام الجدّة مع الحفيد والابن والبنت، وتفاعلها مع الصور وأشرطة الكاسيت وموسيقى التانغو. تعتاش الصورة بين ضبابيّة تفاصيل الحاضر، عدا وجه «هنريات»، كدلالة على ذاكرتها وإدراكها وبصرها، ووضوح وشجن الماضي، كمعادل للشباب والنوستالجيا. في أعمال سابقة، نرى إعادة التمثيل Remake، والشهادات الحيّة، والكتابة على الشاشة، والـ «ستوب موشن»، والفيديو آرت، والتعليق بلسان البطل، أو بقراءة كلماته...
هويّة هادي زكاك لا تخفي نفسها. يمكن معرفة فيلمه بعد ثوانٍ على بدايته. ذاتيته بارزة، حتى لو كان الموضوع كبيراً، كما لو أنّه يكتب التاريخ على طريقته، صانعاً ذاكرةً بديلةً قادرةً على جمع المختلفين. «يا عمري» يلامس شغاف القلب. يسيل دمعاً. يرسم بسمةً حتى الأذنين. زكاك قادر على فعلها، حتى في تناول أهوال الحرب الأهليّة. يوضّب شريطه بحرص جرّاح أعصاب، وصبر نسّاج إيراني، ورقّة شاعر رومانسي. يدغدغ الروح والعقل في آن. يقول الكثير عبر الفنيّ والجمالي و«الوثائقي الرومنطيقي». هدوء موجّه إلى قلب الهدف. لا انفعال أو استعراض أو إثارة مجانيّة. صحيح أنّ أفلامه شديدة اللبنانيّة، إلا أنّه يمنحها أبعاداً أشمل بذكاء منظوره. تصبح بنت المنطقة كلّها، راهنةً، حيويةً، وتعني كثراً. لنقتطع الفصل الأخير من «كمال جنبلاط»، ونجرّب إسقاطه على هواجس الحاضر، وأسئلة المستقبل. النتائج ستكون مدهشة.
ماذا عن التوظيف السيميائي للقطة؟ لنأخذ مشهد «هنريات» الغافية، فيما تُعرض شرائح صور للبنان، على الجدار إلى جانبها. «صار عمري.. ألف، تنين، تلاتة، أربعة، خمسة، ستة، سبعة...». تقول بعفوية عجيبة، كأنّها تتكلّم عن البلاد. تردف عن السياسيين: «كل واحد بدّو صالحو، بدهن جيبتهن». هذا ذكاء الطرح، والطبقات الكامنة تحت المستوى الأوّل. فيلموغرافيا هادي زكاك ثروة سينمائيّة. مشاهدتها تستحضر تيمة رؤوف خليف الشهيرة: شيء كبير «يا عمري».

«يا عمري»: حتى 19 نيسان (أبريل) ـــ «متروبوليس أمبير صوفيل» ـــ للاستعلام: 01/204080