لم أعرف حتى الآن، السبب الذي يجعلني أقرأ رنيم ضاهر. شعرها يضنيني، مع ذلك أرى نفسي مدفوعاً إلى قراءته. مهما يكن، أجد الترحال معها أشبه برحلة في سراديب. أمسك كتابها الجديد «أستدرت الألمس خيالي فترملت» (دار النهضة العربية)، فأجد ما يغوي ويثير، ويشق على العقل في الوقت نفسه.
منذ قرأت كتابها السابق «أتثاءب في مخيلة قطة» ورنيم ضاهر ترهقني. أحاول قراءة الجديد من شعرها، فأجد اللعبة قاسية. ها هي مرة ثانية، تحمل سكيناً تقطّع بها مفاصل اللغة، تمثل فيها إلى حد الجنون، ثم تقول لنا: «أنا مطمورة في هذا الكتاب الذي بين أيدكم، وعليكم إلا أن تبحثوا عني، وإذا أعياكم البحث، فولوا وجوهكم شطر غيري». أتمثلها تصرخ في وجه اللغة: إرفعي خماري يا ابنة الصحراء، إخلعي نعليك فأنت اليوم في محراب جديد، وأمام الوادي المقدس. ما «المقدس» هنا غير شعر تكسوه الشاعرة بأردية الغموض؟ بحر في محيط أمواجه عبث وعصيان وتمرد، تورثها لوليدة من رحمها وتقول: «سأعلم ابنتي الغرق/ القفز من السفن الغائمة/ التي لا تتوقف/ إلا لتتزود بالقات»!
تبدو جريئة وواثقة من نفسها، ثم يصيبها الوهن فتقول: «استدرت لألمس خيالي فترملت». أي ترمل تعني، هي المخفية بين ثنايا الغيوم؟ هل هو التحسر؟ فعل الندامة وخيبات الأمل؟ أم نشوة حاضر جميل؟ ثمة أشياء غامضة، غموض روحها. حتى حين نقبض على شيء من معانيها، تصفع من بقربها وتقول: «سأستعين بمعزوفة كلاسيكية/ لسد الفراغ/ بين قدمي وخيالك». كيف لنا أن نحتمل هذا الإرهاق؟ رنيم ضاهر تعّري اللغة، ثم تكلمنا من خلف حجاب. ثمة حديقة خاصة منذورة لهذه الشاعرة، لا أحد بمقدوره أن يتسلق أسوارها. ثمة شعر قد نحبه، من دون أن نعيه بالكامل. في صنيعها الجديد، تريدنا أن نسير على هدي الكلمات، فإذا هي «أبر توحي بأعراض الولادة». تبدو متمردة مثل ليليت، ثم نراها في حال أخرى قد ارتدت ثوب الكهانة. تتركنا غرباء في الليل، وحيدين بين الفيافي والقفار. تأخذنا الكلمات الآسرة في سطورها إلى نور بعيد، ساكن وراء الغمام، ثم لا نلبث أن ندرك أنه نجم واهم، ظل لفراغ، وأشبه بساعات هوائية. تفعل ذلك وتقول: «شاعر ملطخ بالنسيان/ لا يتخذ شكلاً نهائياً/ كونه يتجمد في الصيف/ أحياناً يعثر الكنّاس على صوته/ وهو عائد من الليل».
أسمع صوت هذه الشاعرة، ويأتيني من خلف كثبان الرمال صوت آخر قديم جديد، يجعلني أسألها: من أنت أيتها الغامضة، المغترة بنفسها، حيال المتنبي؟ أذكّرها بزمن تحداني فيه شاعر العرب الأكبر، فاستعنت عليه بابن منظور، ثم طلبت النجدة من اليازجي والبستاني، فأنقذاني من الغرق. وصرت كلما سافرت مع أبي الطيب في رحلة الشتاء والصيف، من حيث كان وادي عبقر إلى جبل الطور، جلسنا على ربوة عالية بين الغيوم، هو يتلقى الوحي، وأنا أصغي، فأفهم طبيعة عقله، وخصائص نفسه، ودقائق ألغازه وأسراره، حتى جاء يوم لم يعد يتحداني، لا بل كلمني بصراحة غير معهودة، ووقعت معه وثيقة تفاهم، وانتهى الأمر. من يومها لم تشهد الساحة بيننا أي عراك.
أما أنت، فالعراك معك غريب أيتها الشاعرة الفتيّة. لست أدري، قد أكون أنا الغريب، لكني سأظل أسير إلى حيث تأخذك الدروب، ولو أدركني الفتور. لن أتصل بابن منظور، ولا بالجرجاني، ولن أذهب إلى اليازجي الشيخ، حتى العلايلي العلامة، الساكن على بعد خطوات مني، لن أذهب إليه، لأني أعرف جوابه. سوف يتهمني بالخيانة والجحود قطعاً، إذا علم، هو وزملاؤه القدامى، أن بيني وبين كتابك علاقة، وسوف يقولون فيّ الأقاويل، ويشكون من أنني دخلت في دين جديد، وانقلبت على مملكة القوافي، وأصبحت مرتداً يستحق الرجم، ويستحق أن تنهشه عقاب عبيد بن الأبرص.
هل أحب شعرك لأنه مكّحل بأصباغ الغموض؟ هل يفضح نفسه، إذا بانت وجوهه الخفّية؟ الحق أنني لا أملك جواباً على هذا التساؤل القاسي. كل ما يمكنني قوله، هو أن شعرك يأسرني بغموضه، وآمل أن تكون رحلتي في بحوره، مثل قصتي مع إمرأة قابلتها يوماً، في ليل لندني كثيف الضباب، فبدت لي فائقة الجمال، وحين طلع الفجر، وانحسر أثر الأحمر الداكن عن دماغي، وجدتها أقل فتنة، فأصبت بخيبة. ثم جاء يوم فهمتها، وصرت أراها بهية نضرة، وأكثر جمالاً مما بدت لي في ذلك المساء. تلك هي حالي مع الشعر أيتها الشاعرة. أحياناَ أحبه حتى لو خانتني المعاني، لأن به وحده، أتعلم تلك الفضيلة الجميلة التي اسمها الصبر. لكن لا أخفي عليك أني أخشى أن تكون نهاية علاقتي بكتابك، أشبه بحكاية ذلك الرجل الذي سأله صديق له، عن الفارق بين مصباح علاء الدين، ومكياج المرأة، فأجابه بالقول: «لا يوجد فارق، كلاهما لو مسحت، سيظهر لك عفريت»!